كثيرة هي المواضيع التي يمكن أن أكتب عنها، وكلما فكرت في أحدها أجد نفسي عاجزا عن البدء.. شعرت حقا أنني مصاب بـ(أجرافيا) Agraphia، أو ما سماه الفرنسي الشهير، وأحد أبرز مؤسسي علم الأعصاب، جان مرتان شاركو، أستاذ الطبيب النمساوي فرويد: "حبسة اليد". فقدت قدرتي على الكتابة، مع أن اليدين -بفضل ربي- سليمتان. تبصرت في مشكلتي، فوجدت أن العقل المشغول لا يمكن أن يعطي بارتياح، وأحمد ربي أن المانع هو انشغالي بتاج رأسي.
أواخر الأسبوع الماضي، وأنا في المكتب اتصلت علي سيدتي الوالدة، وقالت: "إذا خلصت شغلك أحتاجك".. صوت أمي لا أخطئه، لكن النبرة هذه المرة مختلفة، أقفلت الملفات، وذهبت لغرفتها الجميلة، المزينة بصورة سيدي الوالد، وأخي -رحمهما الله- وصورة زواجي، وصور لأحفادها، وفي ركنها سجادتها، ومصحفها، ومسبحتها، ومبخرتها، وقهوتها.. ناديتها كما تحب: يا أمي يا "سلمى"، خيرا إن شاء الله يا ستي"؟ فقالت: "لا تقلق.. آلام مفاجئة، وأحب أن تأخذ لي موعدا في المستشفى".
حالة انحباس اليد، أضيف إليها انحباس الفكر، أحاول جادا من هنا، وهناك، ولكني لا أجد أمامي غير أمي وحالتها المسيطرة على كل حياتي، وكلي أمل في أن ربي سيمكنني وغاليتي من تجاوز هذه الأزمة. لا أحب أن أرى أمي مريضة، ولا أطيق أن أراها ضعيفة، مرضها وضعفها ينغصان عليّ كل شيء، حتى الماء والهواء.. أحب أن أرى أمي قوية، لأستمد من قوتها قوتي وحماسي، حالة مرض جوهرتي ذكرتني ببيت شهير للشاعر اللبناني خليل بن ناصيف، يقول فيه:
مرضَ الحَبيب بجسمهِ من لطفهِ
فمرضتُ معهُ بِقَلبيَ الولهانِ..
فجأة وأنا وسط هذا المقال، خرجت مني زفرةٌ قوية، لم أتمالك كتمها، وقلت لنفسي إن الطارئ الصحي الذي مرت به أمي، قد تمر به أي أم فاضلة، فألزمت نفسي بأن أنوه بالدور اللازم على الأبناء والبنات عند مرورهم بما يفزعهم عن حال محبوبيهم من آبائهم وأمهاتهم.. إن الدعم النفسي في تجاوز المرض في غاية الأهمية، وتحسين الجو العائلي يخدم الجميع، وبالدرجة الأولى المريض.. الجانب النفسي للمريض له دور مهم في العلاج، وكذلك في المساعدة على الوقاية من المضاعفات، وهو مكون أساسي في كيان المريض، ولا يمكن تجاهل تأثير تكرار الضغوطات النفسية على المريض كذا الصحيح، فالصحة ليست هي فقط الخلو من الأمراض، بل تكمن أيضا في السلامة النفسية والاجتماعية، والدواء ليس كافياً إن كان مجردا من العلاج النفسي.. أحيانا لا يستطيع الوالد أو الوالدة التحكم بردود أفعال المرض، وقد لا يستطيعان النوم أو الأكل أو التوقف عن البكاء والسكوت، وكلها أمور طبيعية، ومردها إلى الخوف من رحلة المرض، وهنا يتأكد على المحيطين بهما عدم التبرم من الاستماع إليهما إن رغبا في الحديث، وإعطائهما الفرصة كاملة في الكلام، مع التنفيس لهما في الأمل، دون الكذب عليهما بعبارات غير صحيحة، وعدم نسيان قوله عليه أفضل الصلاة وأتم السلام: "رغم أنف من أدرك أبويه عند الكبر أحدهما أو كليهما فلم يدخل الجنة".
ترنيمة للشاعر عبدالله الخزمري:
"يُمَّه، يُمَّه.. يُمَّه، يُمَّه
يا حبيبة، يا عزيزة، يا كريمة، يا مهمة..
لحفيني بالدعاء الزين يُمَّه
لجل ربي يفجر الضيقه، ويجلي كل غمه..
والله إني قد ما أكبر ودي ببوسه وضمه".