هناك تطور في الكثير من المسارات العلمية والفكرية التي نعايشها، إلا أن التطور في الفكر الديني كثيرا ما يكون بطيئا، ولكن بعد دخول وسائل التواصل الاجتماعي المفتوحة أجبرت جميع التيارات على الخضوع لضغط الواقع نحو الحوار وإعادة التفكير في كل شيء!
إحدى أهم المشكلات الثقافية العميقة التي تعاني منها مجتمعاتنا هي مشكلة احتكار الحق والحقيقة! ولو من شخص جاهل يظن أنه يعرف كل شيء! ولو تركنا له التصرف لربما لم يبق من منتجات الحضارة شيء حلال إلا ما ندر!
الإكراه في الدين حرام لقوله تعالى: "لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغيّ"، وقوله تعالى: "فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر"، ولكن حسب الفكر التقليدي المتوارث أن المسلم يجب أن يتبع أفكار طائفة أو أشخاص معينين حتى لو لم تكن قناعته النابعة من الأدلة تتوافق مع ذلك! وكأن الإسلام دين كهنوتي تمثله طبقة من الأحبار الذين يجب على الناس اتباعهم، بينما أنه من أجمل الأشياء الجاذبة في الإسلام؛ أنه لا توجد واسطة بين المسلمين والنص الشرعي، والله تعالى يسأل كل إنسان عن مدى قناعته وإيمانه هو، وليس عن إيمان الآخرين الذين يتبع فتاواهم وآراءهم، مهما كانت درجة أولئك الآخرين، وإلا فإن القدح في العبودية ظاهر وواضح في هذا التصرف الذي يحوي في طيّاته نوعا من الوثنية وتقديس الأشخاص!
الله تعالى يقول: "فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون"، وكثيرا ما يُستدل بهذه الآية على تشريع إكراه الناس على فهومٍ لأشخاص معينين! بينما النص قيّد السؤال في حال عدم العلم فقط، والنص الآخر يقول: "فإن تنازعتم في شيء فردّوه إلى الله والرسول"، ولم يأمر بالردّ والرجوع لأحد غيرهما، فلا يحق لأحد أن يجبر آخر على اتباع رأي معين في مسألة اجتهادية تحتملها الأدلة، كما أن الغلوّ في التقليد فيه طعن في تجرّد العبودية لله وحده، وميل نحو صرف نوع من العبودية لغير الله تعالى!
رأينا ما حدث للشيخ أحمد الغامدي من طعن في الديانة وشتم واعتداء، كل ذلك ما كان ليحصل لو كان الهدف هو الحفاظ على الدين الصحيح! فكيف بمن يدعي الديانة ويشتم ويتهم الناس في نياتهم وإخلاصهم! كل ما حصل هو رغبة من بعض الدعاة في إكراه الشيخ وغيره على اتباع مذهب معين هو لا يعتقد صحته! ولا أدري هل الواجب على الشيخ اتباع آراء غيره أم رأيه الذي يدين الله به؟
مهما كان مبرر أولئك المتعصبين ليس مبررا للتضييق على الناس كي يتبعوا الآراء التي يرونها هم، بل الواجب أن يعلم الجميع أنه ليس لأحد إكراه غيره على رأي لا يراه هو صحيحا.
بل ذهب البعض على ترك الموضوعية والتجرّد والنزاهة العلمية ليُحرّف الخلاف كي يُجبر الآخرين على رأيه هو، فيقوم بالتنقيب عن آراء تقوّي رأيه ويعممها! ومن المعلوم مثلا في مسألة غطاء المرأة وجهها أن الخلاف الفقهي قديم جدا، بل مذهب جماهير العلماء بما فيهم قول عند الحنابلة إن الوجه والكفين من الزينة الظاهرة التي أباحها القرآن في قوله (إلا ما ظهر منها)، ولو تتبعنا النصوص الشرعية لما وجدنا نصّا واحدا يأمر بغطاء الوجه مباشرة بالرغم من انتشاره وورود الكثير من النصوص التي يفهم منها أن النساء كن كاشفات عن وجوههن فترة النبوّة! والسكوت عن بيان الواجب غير جائز، مما يقوي حجة القائلين بعدم وجوبه أصلا كما يقول الأصوليون. البعض يكرر حديث عائشة أنهن كنّ إذا حاذاهن الركبان يسدلن على وجوههن، وغاية ما في هذا الأثر أنه فعل صحابي خالٍ حتى من الأمر ولا يفيد الوجوب لا من قريب ولا من بعيد.
المقصود أن المسألة هذه تعتبر من المسائل التي وقع فيها الخلاف بين جماهير العلماء القدامى، والأدلة محتملة، وبالرغم من ذلك نجد هذا التعصب في مسألة كهذه فما بالك في مسائل أقل وضوحا؟
أنا هنا أتساءل: هل جاء الإسلام لإلزام المسلمين بوجوب اتباع آراء أحد من البشر غير المصطفى - عليه الصلاة والسلام - في فهم رسالة الإسلام؟ وما الفرق بين وضع الوسائط المحسوسة كالأصنام بين العبد وربه وبين وضع وسائط معنوية من البشر بين العبد وربه في فهم كلام الله تعالى؟ كما أتساءل أيضا: هل يجوز لمن لديه قناعة مختلفة أن يقلد رأيا اجتهاديا من قناعة شخص آخر لم يقتنع هو به؟ أم أنه يجب عليه اتباع قناعته هو المبنية على اجتهاده في فهم النص؟ وهل سيسأله الله عن اجتهاده هو أم اجتهاد غيره؟ هذه التساؤلات أتركها لأولئك الإخوة الذين شددوا على الناس في كل ما يخالف آراءهم كي يعيدوا التفكير ومراجعة أنفسهم.