نجاح الانتخابات البرلمانية والرئاسية في تونس أضاف بعدا جديدا لماهية الوطنية والتوافق الوطني، وتحديد قيمة التنازلات الجوهرية التي يمكن أن تقدمها الأطراف السياسية بعيدا عن أي مزايدات وكيد سياسي، وذلك لأن العملية السياسية في الدول التي اكتوت بثورات ما يعرف بالربيع العربي، لا تزال هشة ولم تنضج بما يجعلها داعما لسلامة واستقرار تلك الدول، ما يجعلها بحاجة إلى تخارج أو مخرج من عنق الزجاجة.

فوز باجي قائد السبسي بجولة الإعادة لاختيار الرئيس الجديد لتونس يفترض أن يكون مواكبا لتطلعات التونسيين لإنقاذ ثورتهم من جحيم الربيع العربي، واشتهاء الإسلاميين لسلطة لن يحسنوا ممارستها بعد أن تسببوا بإتقان في تشويه حقوق الشعوب في الحريات والديموقراطية، وصادروها لصالح أجندة دينية ضيقة وقبيحة أنتجت الفوضى التي تعيشها دول الربيع العربي.

أمام السبسي كثير من التحديات أولها أن يحافظ على مبدأ الاستقرار السياسي، ورغم أن الإسلاميين أظهروا نيات جيدة في العمل السياسي، إلا أنهم لا يؤمنون من ارتداد وسيشكلون معارضة ذات أجندة لا تخلو من إعاقة مساره السياسي، ولذلك فإنهم يظلون أكبر تحدياته وتحديات تونس، فإن تقربوا خطوة اقترب مقابلها نصف خطوة، وإن ابتعدوا خطوة يتقدمهم خطوتان لأنهم لا يجدي معهم أن يكون في المقدمة وإلا اتجهوا بالبلاد والعباد الى الوهم الديني الذي نعرف جميعا نهايته من إرهاب ومصادرة حقوق ودكتاتورية بغطاء وعظي.

بداية السبسي لا بد وأن تكون من بوابة الإسلاميين، ودون ذلك يعني أن يعمل وعنقه في يدهم، فهم إما أن يستسلموا للأفكار الديموقراطية كما يريدها غالب التونسيين أو يبرزوا بأجندتهم العدائية ويتم حسمهم بحوار صاغر أو قاتل، لأن عجلة الدولة لا يمكن أن تمضي دون أمان من غدرهم ورضاهم بنتائج الانتخابات دون بحث في ثغراتها واستغلالها في مشروعات تخرب العملية السياسية وتهدد أمن البلاد.

السبسي تعهد بأن يكون رئيسا لكل التونسيين، ودعا المواطنين إلى نسيان انقسامات فترة الحملة الانتخابية، وذلك ضروري وينبغي أن يكون محل توافق من الجميع، فتونس قدمت تجربتها في العمل السياسي بصورة أفضل من غيرها، وهي التي ابتدأت الحراك الثوري في المنطقة، وعليها أن تواصل دورها في صياغة منظومة سياسية سلسة تؤكد عدم اختطاف الثورة ومصادرتها لأي أطراف ليست ذات أجندة وطنية حقيقية، لأن من فعل ذلك في غيرها انتهوا ببلدانهم وهي تحترق في الصراع والفوضى.

تظل تونس حتى اللحظة الراهنة عنوانا عريضا وكبيرا لتصحيح مسار الحريات ورفض الشمولية، ونجاحها في أن تنأى عن تداعيات الربيع العربي السلبية يعزز فرصها في الاستقرار والأمن والسلامة الوطنية، وما رشح من رفض لنتائج الانتخابات بعد إعلانها يعتبر ظاهرة صحية وطبيعية في إطار الممارسة الديموقراطية، ويجب ألا يتم تحميله فوق ما يحتمل، فهناك أصوات ظهرت بأن الجنوب يختلف عن الشمال وينحاز لطرف بعينه، والشمال على ذات المنحى، وهي المفارقات التي يرصدها أعداء السلام ويسعون إلى تعزيزها وتأصيلها في الحياة السياسية لخلق نوع من التمايز الاجتماعي الذي يولّد الغبن وينتهي إلى فكرة التقسيمات المعروفة.

تونس انتصرت مرة أولى وثانية وثالثة، وحققت الاستقرار الذي يعتبر النتيجة الطبيعية لممارسة سياسية شفافة ونزيهة يجتمع فيها غالب الشعب على فكرة وطنية جامعة تعصمهم وتعصم بلادهم من الأفكار المضادة التي تنتج الاقتتال والاحتراب غير المجدي، تماما كما حدث في أوروبا في القرون الوسطى، حيث كانت أسباب الصراع عبارة عن مشاجرات بلهاء بين شرائح اجتماعية وطوائف دينية، وانتهى المطاف بسلام دائم تجسد في وحدة معاصرة، ولعلي في سياق التجربة التونسية استشهد بمقولة لكمال أتاتورك وهو يقول "سلام في الوطن، سلام في كل الدنيا"، وأعتقد أن سلام تونس ينعكس على فكرة السلام في دول الربيع العربي التي لا تزال تحترق لأنها لم تفهم معنى الثورة التي أرادها التوانسة، التقطوا الشرارة وانطلقوا في ثورات بلا هدف حقيقي، ولو كانت على قياس تونس لوصلت إلى ما وصلت إليه موطن الشرارة الأولى.