يلجأ المتطرفون إلى الإرهاب والعنف وهم يعتقدون أن ما يقومون به إنما هو بإرادة الله، وعلى هذا الأساس لا يفكر الإرهابي الذي يقوم بقتل الناس وتعذيبهم في جسامة وشناعة وجرم فعلته، بل فيما سيناله في الآخرة من نعيم الفردوس الأعلى في الجنة.

ولهذا نجد أن العنف والقتل عند الإرهابيين عبارة عن وسيلة تعبدية تستمد شرعيتها لديهم من الغاية النبيلة التي يتصورونها، وهي إقامة حكم الله على الأرض عن طريق الجهاد في سبيله، فقد لقّنوا وحفظوا أن المجتمعات الإسلامية التي لا تحكم بما أنزل الله في كتابه وسنة نبيه محمد - عليه الصلاة والسلام -، هي مجتمعات كافرة وظالمة وفاسقة!

والتصور السابق في الحقيقة مصدره اجتهادات بشرية مشوهة عن الإسلام، حشيت به أدمغة المتطرفين، من خلال تفسيرات ونظريات تاريخية لنصوص الدين، وللأسف فإن هذه النظريات والتي منها تفسير معنى "الحكم بما أنزل الله"، هي السائدة في كثير من المجتمعات الإسلامية، وهي تعد من أحد الأسباب الرئيسية التي تقف وراء تخلف وتأخر هذه المجتمعات وظهور التطرف فيها.

ومثل هذه النظريات تجد لها آذانا صاغية لدى العوام من الناس الذين لم يدركوا عمق التحولات الحضارية التي حلت بالمجتمعات البشرية في العصور المتأخرة، وهي جريمة بحق الإسلام والدين الإلهي الذي يفترض أن يكون الدين الخالد والصالح للبشرية على مدى الدهور.

لقد حاول البعض إيجاد مخرج من هذا المأزق الإنساني والأخلاقي من خلال تفسير تعسفي للنصوص الدينية بحيث لا يتم الخروج عن الإطار الرئيسي لمفهوم النص التاريخي الذي يعتمد على المسبوقات الفكرية ويقرر "كفر من لم يحكم بما أنزل الله" كقضية مسلمة ومفروغ منها، الأمر الذي أدى إلى وجود تناقضات بالإضافة إلى تهميش وإقصاء ما يتقاطع مع الرؤية التاريخية الواردة في الموروث الديني.

يقول رجال الدين في تفسير معنى قول الله - عزّ وجل -: (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون) المائدة: "هو تحكيم شرع الله في كل شيء"، ومن قال "إن حكم الطاغوت أفضل، فهو بهذا مرتد، وكفره كفر أكبر، وظلم أكبر، وفسق أكبر، أما إذا حكم بغير ما أنزل الله، لهوى في نفسه، على المحكوم، أو لمصلحة المحكوم له، أو لرشوة أخذها من المحكوم له، هذا كله يكون من باب الكفر الأصغر".

فالتشريع القانوني، حسب نظرة بعض الفقهاء ورجال الدين، هو "حق خالص لله وحده لا شريك له، من نازعه في شيء منه، فهو مشرك"، وبالتالي فإن تشريع القانون الوضعي وتحكيمه وتطبيقه معاندة لشريعة الله و"مكابرة لأحكامه، ومشاقة لله ورسوله".

ومن مظاهر "الكفر الأكبر" المخرج من الملة: إحلال القانون الوضعي بديلاً عن أحكام الشريعة، وإنشاء محاكم غير شرعية، والرجوع إلى القوانين الدولية والإعجاب بها أو مزج الشريعة بمثل هذه القوانين"، وللتخفيف من حدة التكفير في تفسير المعنى، قال البعض: "بالنسبة للمحكوم بالقوانين الجاهلية فإن تحاكم إليها عن رضا واختيار فهو كافر كفرا أكبر مخرجا عن الملّة، وأماّ إن لجأ إليها إكراها واضطرارا فلا يكفر لأنه مكره"!

لقد فهم بعض رجال الدين أن المقصود بـ"حكم الله" أن وضع القوانين مختص بالله تعالى وحده، فلا يحق لأحد من البشر وضع قوانين غير الله تعالى، ولهذا استغل الإرهابيون هذه التفاسير في تبرير العنف وقتل الناس وتكفير المجتمعات الإسلامية.

جاء في التفاسير التاريخية لمعنى قوله تعالى (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون)، أنها جاءت في أهل الكتاب من اليهود والنصارى، وقد حاول البعض التمسك بهذا المعنى لإيقاف ظاهرة التكفير بين المسلمين، ولكن البعض أورد روايات أخرى تؤكد على أن الآية: "عامة في كل من لم يحكم بما أنزل الله من المسلمين، واليهود، والكفار، أي معتقدا ذلك ومستحلا له". وكذلك بناءً على قاعدة: "عموم اللفظ وخصوص السبب".

في حين أن مفهوم "الحكم لله" وردت في القرآن الكريم في معانٍ عدة، ولا يراد بها القوانين، منها ما يعني الحكومة التكوينية لله - عزّ وجل - على الكون والمخلوقات، كما ورد في سياق الآية الكريمة (إن الحكم إلا لله عليه توكلت وعليه فليتوكل المتوكلون)، كما جاءت بمعنى النبوة والحكمة والأمر وإمضائه كما في قوله تعالى (فاصبر لحكم ربك ولا تكن كصاحب الحوت).

أما بخصوص الآية الكريمة (وكيف يحكمونك وعندهم التوراة فيها حكم الله) والتي تقرر أن الله تعالى أنزل التوراة ليحكم بها بنو إسرائيل في شؤونهم القضائية والحقوقية، فهي تتعلق بالعدالة والمساواة وإزاحة الظلم، فهذا هو حكم الله على الناس الذي أمر به جميع البشرية، وكما هو معلوم فإن العدل أمر نسبي يختلف من مجتمع إلى آخر وليست له معايير ثابتة ويتأثر بتغير الزمان والمكان والظروف، ولذا يجب على الناس تنفيذ حكم الله عن طريق وضع وسن القوانين التفصيلية الأقرب إلى مقتضيات العدالة والتي يكون مصدرها العقل البشري.

إذا أردنا تجفيف منابع الإرهاب والتطرف فالسبيل هو تجديد الفكر الديني وتصفية ما علق به من شوائب هي في الأساس أفكار بشرية قديمة، حاولت فهم النصوص الدينية وفق مسبوقاتها الفكرية وحالتها الاجتماعية والثقافية آنذاك، فاليوم، على سبيل المثال، استنكر الناس ما قام به إرهابيو "داعش" من بيع واغتصاب للنساء وفقاً لمفهوم "الرق" وسبايا الحرب.. فهل يطالب رجال الدين بالعودة إلى الرق وتأسيسه من جديد؟ أم أن القانون التاريخي يتطور كسائر الأنظمة والقوانين البشرية الأخرى؟.. من يجرؤ على الإجابة؟!