للمسائل الشرعية مستويات يميزها العلماء وتكون شعارا لفقههم، ذلك أن "المعيار الأصولي العلمي" هو الذي يميز بين مستويات هذه المسائل الشرعية حتى لا تعامل على أنها على مستوى واحد. والله تعالى في كتابه الكريم ميّز بين مستويين من آي القرآن (منه آيات محكمات هن أم الكتاب، وأخر متشابهات)، فليس القرآن في آياته بمستوى واحد من حيث الدلالة والنص على المعنى، وليست الشريعة كذلك، فهناك القضايا الضرورية أو (ما يعرف من الدين بالضرورة) التي يعرفها المسلمون دون نظر واستدلال، وهناك مسائل الإجماع القطعية اليقينية التي تثبت بالاستقراء ويكون عمدتها من النصوص ظاهراً لا خلاف فيه، وهناك مسائل الإجماع الظني الذي ينقل دون استقراء تام، وهناك مسائل الخلاف التي يتنازع العلماء في أدلتها قبولاً ورداً، ويتنازعون في دلالتها قطعاً وظناً، وهناك مسائل الاجتهاد التي تستجد على الأمة فتحتاج إلى عقل اجتهادي يلحق الفروع بالأصول، ويقايس على مقاصد الشريعة وأدلتها الكلية والجزئية حتى يبين رأيه الشرعي في المسألة حلاً وحرمة، وهناك المسائل "الشاذة" التي تكون على خلاف الأصول العلمية، وفي مقابل الإجماعات والنصوص القطعية اليقينية، وهذه قضايا مطروحة في كتب الأصول ومسائل الاجتهاد الشرعي.

إن من الإشكاليات الكبرى التي تواجه العقل المسلم اليوم، والتي هي بوابة كبيرة إلى "الغلو"، هي جعل المسائل على مستوى واحد، فتكون المسائل الظنية الخاصة النسبية التي يراها البعض موافقة لمراد الله ورسوله هي الدين الحق الذي لا يجوز للناس مخالفته، بل ويرى أن من خالف رأيه فقد ناصب الشريعة العداء، وافترى على الله كذباً، ولربما وصل الحال إلى البراءة والتكفير والتفسيق بسبب هذه القضايا المحتملة التي اختلفت فيها أنظار العلماء وتنازعوا في أدلتها، وافترقوا في تصورها منذ زمن الصحابة إلى هذا اليوم.

ولذلك كان مسلك علماء الشريعة من أهل السنة وأئمتها أنهم يعذرون المجتهد في المسائل ولا يؤثمونه أو يهدرون كرامته أو يستبيحون غيبته أو ثلبه، وقد نص ابن تيمية رحمه الله أن (هذا هو القول المعروف عن الصحابة والتابعين لهم بإحسان وأئمة الدين: أنهم لا يكفرون ولا يفسقون ولا يؤثمون أحداً من المجتهدين المخطئين، لا في مسألة عملية ولا علمية..). و(قد اتفق الصحابة -في مسائل تنازعوا فيها- على إقرار كل فريق للفريق الآخر على العمل باجتهادهم، كمسائل في العبادات والمناكح والمواريث والعطاء والسياسة وغير ذلك.. وتنازعوا في مسائل علمية اعتقادية، كسماع الميت صوت الحي، وتعذيب الميت ببكاء أهله، ورؤية محمد عليه الصلاة والسلام ربه قبل الموت، مع بقاء الجماعة والألفة)، (مجموع الفتاوى: 19/122).. هذه هي أخلاق العلماء من أئمة السنة والدين الذين استناروا بالعدل والإنصاف والحق وعرفوا أخلاق العلم وآداب العلماء.

لقد جرى في الأيام الفائتة سجال كبير حول قضية "وجه المرأة"، وهل يجب عليها تغطيته أم لا؟ وهل هو عورة أم لا؟ وضجت مواقع التواصل الاجتماعي حول هذا الموضوع حين خرج أحد طلبة العلم مع زوجته في إحدى القنوات الفضائية وقد كشفت عن وجهها، وانقسم الناس بين مؤيد يرى أن هذا حق مشروع، وبين معارض يرى أن هذا عمل محرم ولا يجوز، وظهرت في القضية من الأخلاقيات الرديئة من السب والشتم والقذف والتعدي على الأعراض ما يجعلنا أمام معضلة أخلاقية كبيرة تجعل المسافة بيننا وبين فهم مسائل "الدين" بوناً شاسعاً، وتجعلنا كذلك نعيد مقرراتنا التربوية والعلمية التي لا تميز بين مسائل الدين المحسومة، وبين موارد الاجتهاد والخلاف المقبول والسائغ، وخاصة حين يدخل في هذه السجالات غير المحمودة أناس ينظر إليهم على أنهم قدوات وهم يعتدون بألفاظهم، ويغالطون حقائق العلم وكلام العلماء، ويحاولون - بسبب رغبتهم في حفظ العفة ونسق المجتمع المحافظ، وهو حق لا ريب فيه - أن يكتموا خلاف العلماء في هذه المسألة مع أن حضورها في كتب الفقهاء وخلافياتهم معلوم مشهور لا يخفى على أي طالب علم، وأن نصوص المسألة ظنية لا قطع فيها، وأن علماء السلف والخلف قد تنوعت أقوالهم في المسألة، وخلافهم معتبر، ولكل فريق رأيه المقدر والذي له حظ من النظر، فلماذا يصر فريق على نفي الخلاف، ولماذا يصر فريق في مقابله على التهوين من خلاف من يرى وجوب الستر، ولماذا تنشأ هذه الأخلاقيات التي تهدر قيمة الإنسان وكرامته وتبيح عرضه بسبب خلاف في قضية فقهية خلافية؟

إن الحرص على "عفة المرأة المسلمة وحيائها" هدف لكل مسلم ومسلمة، ولا ينازع في ذلك إلا مفتون وصاحب هوى، والله يقول (فالصالحات قانتات حافظات للغيب بما حفظ الله)، ولكن هذا لا يعني حسم مسألة النقاب والغطاء، ولا يعني أن من يختار القول المخالف للسائد الاجتماعي أو الفقهي أنه من أهل الفساد أو من راغبي إضلال المجتمع، بل هذا القول قد قال به أئمة كبار وعلماء أجلاء من الصحابة والسلف والفقهاء في القديم والحديث، فلا ارتباط بين أن يتبين للإنسان أن لا دليل على كون وجه المرأة عورة، وبين إباحة تبرجها وفسادها، وهذا الربط إنما جاء من أولئك المتوجسين الذين يظنون أنهم محاطون في كل لحظة بمن يخطط لهم ولإفسادهم، وهو بلا شك ارتباط تعسفي بين قضيتين منفصلتين، وإلا لقلنا إن العلماء الذين أباحوا للمراة كشف وجهها وأنه لا إنكار عليها أرادوا بذلك فسادها وإفسادها وهذا لا يقول به من يعرف أقوال العلماء في المسألة.

ولست هنا بصدد ترجيح قول على قول، أو مناقشة أدلة الفريقين، وإنما أردت توجيه الأنظار إلى الأخطاء "المنهجية" و"الأخلاقية" التي تكتنف نقاشاتنا في مثل هذه المسائل، وأنها علامة ودلالة على أننا إلى الآن لم نستبصر طريق الخلاص وركوب طريق الاعتدال والوسطية في مقرراتها الفقهية والشرعية، في الوقت الذي توجه إلينا الأنظار من كل مكان، وتصفنا بأننا بوابة الإرهاب ومفرخة الغلو المعاصر، ونحن في كل مرة نثبت للناس أننا محضن للأفكار المتطرفة التي تحرجنا مع الناس، وتنفر الناس من دعوتنا وهدايتنا وقيمنا، وتحيز شبابنا إلى تلمس المبادئ من خارج الحدود، أو في ولوج أفكار التطرف الإلحادي والعلماني المضرة إذا علموا أننا حجبنا عنهم الأقوال والحقائق.