لم أعهد ـ والله أعلم ـ أن مواطنا في المملكة العربية السعودية يترقب الميزانية العامة بهذا الشغف، لم أعهد هذا القلق في بلادي، فمن عادتنا طلب المزيد وأنا ممن يفعل، فتكاليف الحياة لم تعد كما كانت في شبابي، فمع أن رواتب القطاع العام على الأقل زادت بل تضاعفت في بعض القطاعات، ولكن كلما تم الإعلان عن زيادة في الرواتب زادت الأسعار اطرادا، بالتالي هناك أشخاص بعينهم هم سبب ارتفاع الأسعار بهذا الشكل المقلق، وهم تجار التجزئة على الأغلب الذين قد يبررون هذا الارتفاع بارتفاع أسعار الجملة، الذين بدورهم يبررون رفعهم للأسعار لأن تكاليف الاستيراد عالية، ابتداء من دولة المنشأ وانتهاء بالضرائب، وهؤلاء نرد عليهم بما جاء وفقا لتقرير صادر عن "بي دبليو سي العالمية" من أن "المملكة العربية السعودية" احتلت المرتبة السابعة عالميا من حيث سهولة دفع الضرائب وقلة التعقيدات، وبالتالي ليس لديهم حجة قوية في هذا الجانب بالذات، خاصة أن المواد الاستهلاكية الأساسية من طعام وسكن ودواء.. إلخ، يجب أن تكون في متناول الجميع، وكما يجب ضمان الأمن الوظيفي للعاملين في القطاع الخاص، فمن غير المنطقي أن يعيش جزء منا على القروض التي تستنزف مقدرات الأسر وتمنعهم حتى من توفير ضروريات الحياة الأساسية.

نحن بطبيعة الحال لسنا دولة اشتراكية. بمعنى أن وجود الطبقتين الغنية والمتوسطة أمر مشروع ومطلوب، ولا يخلو مجتمع إسلامي من هاتين الطبقتين. ومن جانب آخر، علينا كمجتمع ألا نترك الطبقة التي تعيش "حد الكفاف" كأن أمرها لا يعنينا، فمن واجبنا كدافعي زكاة، ومن واجب الدولة من باب أنها المكلفة شرعا بجمع الزكاة وتوزيعها على مستحقيها، رفع مستوى هؤلاء إلى حد الكفاية، وهذا ما يستلزم توفير ما يمكنهم من حياة كريمة، من خلال توفير كل مقومات الحياة المعاصرة لزمانهم.

ومن هنا، أتطلع إلى وزير التجارة لعله يوجه لدراسة ارتفاع الأسعار بهذا الشكل المقزز، ليس فقط في مستلزمات الحياة الضرورية، بل حتى في الكماليات، فهذا كله يفصل بين طبقات المجتمع بشكل مثير لعدد لا يستهان به من المواطنين أو حتى العمال المقيمين، فبسبب ارتفاع الأسعار تحجم العمالة المقيمة عن الإنفاق مع امتلاكها المال، ولو تطلب ذلك حرمانها من مقومات الحياة الكريمة. آمل من وزارة التجارة الاهتمام بمراقبة حازمة للتجار الذين يمارسون التعنت، ولا يهمهم من حول الدَّين حياته إلى همّ بالليل وذل بالنهار، فهؤلاء يمارسون التعنت على المواطن والمقيم الذي من حقه أيضا العيش بيننا بكرامة، ومن حقه أن يوفر ما يعينه على الحياة عند رجوعه إلى وطنه.

كما أتطلع إلى المجتمع المدني والجهات صاحبة العلاقة لتنفذ حملات وطنية يقوم عليها متخصصون توضح للمواطن كيفية تفادي ارتفاع الأسعار مع توفير مقومات الحياة الكريمة.

ونحن إذا أردنا التوقف عند تعريف التضخم فسنجده كما يفسره بعض المتخصصين: "انخفاض القوة الشرائية للنقود مقابل الحصول على السلع والخدمات حتى الأساسية"، إذاً فانخفاض القوة الشرائية للنقود جاء ـ والله أعلم ـ بسبب ارتفاع أسعار السلع والخدمات حتى الأساسية منها، أي أن التجار عالميا ومحليا قد يكونون السبب المباشر في التضخم، مع أن معظمهم يقولون إن سلسلة الإمدادات لمعظم السلع ارتفعت، والنتيجة الطبيعية لهذا الارتفاع رفع الأسعار.

لا ننكر على التاجر الحق الكامل في تحقيقه للأرباح، بل هي العلة من عمل كل منا في مجال عمله سواء في التجارة أو غيرها، ولكن أن يرفع أحدهم أسعار السيارات على سبيل المثال، بحجة ارتفاع العملة في البلد المورد، وعندما يشهد العالم انخفاض هذه العملة بعينها، لا يحرك ساكنا، وكأن الأمر في هذه الحالة لا يعنيه، ليكون المستهلك ضعيف الموارد هو الخاسر في كلتا الحالتين، فهذا أمر من الصعب السكوت عنه، بل وعلى فرض أن البلاد خفضت الضرائب لأقل حد ممكن أو ألغت فرض الضرائب كما هو حاصل لبعض السلع، فسيجد التجار على المستويين العالمي والمحلي المبررات لرفع الأسعار.

وإننا عندما نطالب وزارة المالية بتثبيت البدلات المتعلقة بمهام الوظائف، فهي عند إلغائها لهذه البدلات التي استمر صرفها لسنوات تصيب الأسر المعنية بها في مقتل، خاصة أن بعضها يلغى بين ليلة وضحاها ودون إنذار مسبق. نطالب أيضا باعتماد سياسات من شأنها زيادة أو ثبات القيمة الشرائية للريال السعودي، الذي من وجهة نظري يملك كل المقومات التي تجعله ضمانا لمالكه، فالسياسات العامة للبلاد داخليا وخارجيا ثابتة، وحتى التغيرات التي تقرها الدولة تكون إكمالا لسياسات سابقة وتمهيدا للاحق منها، فهي لا تمارس الارتجال في قراراتها الاستراتيجية.

نحن اليوم نترقب الميزانية متمنين أن تكون كما عهدناها في السنوات الماضية حاملة للخير لكل الأطراف، كما نأمل من الوزراء تسخير الطاقات كافة لاستثمار الميزانية لتحقيق الأهداف التي وجدت من أجلها، التي تصب في مصلحة المواطن.

وللوزراء الذين أوكل إليهم تنفيذ خطط الميزانية ونؤمل فيهم الخير الكثير، أقول: "وإن غدا لناظره قريب".. والله المستعان.