لو أن للفضيلة جناحين لطارت إلى أبعد جزيرة واعتزلت، لو أن لها لسانا لناجت ربها في عزلتها وتضرعت، لو أنها تملك من أمرها شيئا لرفعت قضية على ثلاثة أصناف من البشر، فصنف يسعى إلى وأدها وصنف يصحبها ليحافظ عليها بالإكراه، وصنف يقبلها علنا ويركلها في الخفاء، وستجد نفسها بعد المداولة بلا غريم تقتص منه رغم أن قميصها قد قُدّ من كل اتجاه!، سينتهي بها الحال إلى ما انتهت إليه، مجرد علكة يمضغها أحدهم مع كل ألفاظ السفالة والسفاهة ثم يتجشؤها في وجه كل من يخالفه الرأي والأفكار.
إن الرذيلة الصريحة يمكن ملاحظتها، يمكن الإشارة إلى فاعلها والقبض عليه بالجرم المشهود، كالسرقة والزنى وشرب الخمر، وفاعل الرذيلة الصريحة إن نجا بفعلته فلن ينجو من القلق وتأنيب الضمير واحتقار الذات أمام المرآة، إلا أن هنالك رذيلة أحط وأردى، رذيلة يمكن ملاحظتها لكن لا يمكن الإشارة إلى فاعلها لظهوره بمظهر الفاضل الذي وإن تردى به الحال وتخلى عن كل القيم الأخلاقية سيجد من يقول له: جزاك الله خيرا فأنت على ثغر!، هذه الرذيلة المستترة بالفضيلة تترك فاعلها مبتسما كلما نظر إلى المرآة تتركه ينام مرتاح البال، كيف لا وهو قد أحق بالباطل حقا وأزهق بالدناءة باطلا!.
إن الرذيلة الصريحة تعطي للفضيلة قيمة، كالصدق الذي يكسب قيمته حين يعرف الناس طبيعة الكذب، غير أن الرذيلة المستترة بفضيلة تنتصر للرذائل كلها ثم تشوه كل الفضائل، أي إنها رذيلة مضاعفة، كأن يدافع أحدهم عن معتقداته وأفكاره بأقبح الشتم والقذف والهمز واللمز وبالعنف الجسدي إن لزم الأمر، ثم يبتسم ابتسامة بلهاء غير مدرك أنه قد شوه معتقداته وأفكاره وانتصر لأفكار مخالفيه.
وإن كانت الرذيلة الصريحة من وساوس الشيطان، فإن التستر بالفضيلة من غوايته، والغواية لعبته وملعبه.
إن المجتمع الذي يسمح لصبيانه أن يرفعوا أصواتهم فوق صوت الجميع، المجتمع الذي يوجد فيه من يبرر اللجوء لكل رذيلة متاحة من أجل الحفاظ على الفضيلة، هذا المجتمع في حاجة إلى إيجاد علاج لأسلوبه في العلاج، إن الجزار القادر بكل احترافية أن يشق جسد المريض لا علاقة له بالطب أبدا، ومن يدافع عن الفضيلة بالشتم والقذف وأقبح الألفاظ والأفعال لا علاقة له بالفضيلة التي يدافع عنها أبدا!، على هذا المجتمع أن يُوجد علاجا لأسلوبه في العلاج أو أن يكف عن انتظار معجزة تمنع الجزار عن فتق الجراح أكثر.
إلى أين سيقودنا هؤلاء؟، ولماذا تحتاج الفضيلة إلى كل هذه الحراسة المشددة والدفاع المستميت؟، إن علينا مراجعة مفهوم الفضيلة أولا ثم مراجعة أسلوب حراستها، لأنه بهذا المعنى والأسلوب قد توهم حراسها الأشداء وآمنوا عن قناعة بأن الله لم يهد في الدنيا سواهم، ظنوا أنهم على ثغر يُخَاف هجوم الأعداء منه، ظنوا أنهم يعيشون معركة حامية الوطيس ومن أدبيات المعارك أن الذي لا يقف ضمن صفوفنا فهو حتما عدو لنا!.
من أين جاءنا هؤلاء؟، الهمازون اللمازون النمامون، يقذفون، ينتقصون، يشنعون، يحرضون، يؤلبون السلطة على مخالفيهم، يجيشون الناس بعضهم على بعض، يدفعون بالأب إلى التبرؤ من ابنه، ويطالبون القبيلة أن تتبرأ من مخالفيهم!، منهم من يختبئ خلف اسم مستعار فيطمئن ويتمادى في الشتم والقذف، منهم من يظهر باسمه وصورته فيلمح تلميحا حتى لا يؤخذ عليه مأخذ قانوني، وكأن الله لا يعرف الأسماء والوجوه ولا يعلم النوايا!. حصنوا أبناءكم من هذا الجنون.
لا بد من غربلة مفهوم الفضيلة، لأننا حين بدأنا حراستها بدأناها خوفا عليها من دعاة الرذيلة، من القائلين بتحريم حلال صريح أو تحليل حرام متفق عليه، وبعد عقود من الحراسة المشددة والدفاع المستميت انتهينا إلى معاداة كل من يتحرك ضمن المباح!.
هذا يقول بجواز سماع الموسيقى فيُشتم ويشكك في نسبه وعرضه وأخلاقه وشرفه إلى أن يتوب لله!، هذا يقول بجواز كشف المرأة لوجهها فيباغَت بهجوم كاسح كل الأسلحة فيه حرام بالإجماع، هذا يطرح رأيه في الاختلاط فيأتيه من يقف أمام باب بيته ويطلب منه الدخول للجلوس مع نسائه!.
فإذا كانت مثل هذه المسائل حراما قطعا لا جدال فيه، فعلى من يرى هذا الحرام أن يكون شجاعا، أن يعبر عما يراه بكل صراحة ولا تأخذه في الله لومة لائم، أن يُورِد أسماء كل علماء السلف والخلف الذين قالوا بتحليل ما يؤمن أنه حرام قطعا، ثم يطبق عليهم فتوى اللجنة الدائمة التي جاء فيها أن من أحل حراما علم تحريمه من الدين بالضرورة فإن هذا كفر وردة عن دين الإسلام.
إن كانت المسألة دفاعا عن الفضيلة فليتحل المدافعون بالشجاعة فعلا ولا يستثنون من قول الحق أحدا، أما أن يبتسم المدافعون عن الفضيلة لفئة ويُكشِرون عن أنيابهم لفئة أخرى فهذه مسألة تحتاج منهم للكثير من الاستغفار. وأستغفر الله العظيم.