يقول الشاعر الفيلسوف شيللر:
"إن الجوع والحب يجعلان العالم يدور. وإذا كان الجوع يصلح لتمثيل الغرائز التي هدفها المحافظة على الفرد، فالحب شيء آخر وظيفته المحافظة على النوع".
في الحروب تبرز جدلية الحب والحرب والحب والجوع: نقائض متفقة على الفناء والبقاء، نقائض تحيل الذعر من العدم إلى هوة سحيقة تبحث في الآخر الحميم عن بعض امتلاء.
وعلى عكس الجوع والحروب يحمل الحب كل مفاهيم الخير والجمال والمتعة، مما يجعله صلة وصل الكائن بأناه العليا وذاته المهذبة، إلا أن المفهومين الآخرين يفجران شهوة الكائن الملتهبة للحب والعيش والبقاء رغم مأزق العدم: إنه يبحث عن طريق للخلاص والهروب من واقع الموت، موت الإنسان بمفهومه الفلسفي الأخلاقي، وموت النوع في مفهوم الجسد.
ومن هنا يبدو الإقبال على العلاقات الحميمة، البحث والتشبث بالحب، وظاهرة BABY BOOM أي ارتفاع أعداد المواليد في الحروب، أمرا مفهوما وبشريا في الوقت عينه.
ففي شهر العدوان الإسرائيلي على غزة مثلا سجلت وزارة الصحة الفلسطينية ارتفاعا لافتا في عدد المواليد الجدد يتجاوز المعدل الوسطي الشهري بحوالي 500 ولادة، وفي سورية أعلنت الأمم المتحدة عن ازدياد عدد الخدج في مخيمات اللجوء السورية وبعض المناطق المحاصرة بالموت، هناك حيث يتشبث السوريون ببقايا إنسانيتهم: يحبون، يتزوجون، يتكاثرون، يمارسون الحياة هربا من العدم.
الفن وجه آخر للحب ونقيض الموت، وسيلة للتعبير والتأكيد أننا ما زلنا أحياء و"طريق لتعويض أنفسنا عن هذا الإجداب في الحياة" كما يقول فرويد، وفي هذا تفسير للكم الكبير من الأعمال الفنية المنجزة في ظروف مأساوية منذ بدء الثورة "أفلام توثيقية حية، أفلام سينمائية متواضعة، أفلام الهاتف المحمول، مقاطع درامية ساخرة، مسرح، غناء، إلخ..".
أدب الحروب يعي أيضا التصاق الحب برائحة الدخان والبارود، وكل الأعمال الأدبية التي كتبت في ظل الرصاص والنيران تناولت الحب كقيمة أساسية تمنع الفرد من اجترار العدم والعنف: "الإلياذة" ملحمة هوميروس الشعرية، قصائد أراغون، بول إيلوار، رسول حمزاتوف، رواية "الحرب والسلام" لتولستوي، "كل شيء هادئ في الجبهة الغربية" للكاتب الألماني إيريك ريمارك، روايتا "وداعاً للسلاح" و"لمن تقرع الأجراس" لأرنست همنجواي، وفي الساحة السورية الأدبية الراهنة "بوابات العدم" لسمر يزبك، "حراس الهواء" لروزا ياسين حسن، "طبول الحرب" لمها حسن، وأعمال أخرى سأتطرق لها في مقال آخر.
الحب في الحرب:
عنف من نوع آخر تبثه الروح الباحثة عن معنى لوجودها المهدد بالخطر، ولا خلاص من هذا العبث إلا بالحب نفسه والفن والجمال وبعض الخبز والحلوى، ولعل التفاعل الكبير والحار والصادم للسوريين "معارضة وموالاة" مع فوز المغني السوري حازم شريف في برنامج أراب آيدل قبل أيام محاولة لرأب المسافة بين الحياة والموت: إنهم يطردون الخوف بالحب، والموت بالغناء، وضياع الوطن بالحلم. إن انتصار حازم هو نصر متخيل للسوريين المهزومين، نصر على الخيبة والتباس معنى الهوية.
ولكن مبروك لحازم.. ولكل آباء المواليد الجدد.. رغم ازدحام المقابر.