بالرغم من اعتراف رجال الدين والدعاة بوجود الخلاف الفقهي حول أصل تشريع الحجاب وحدوده، وما إذا كان حكما تأسيسيا أو إمضائيا وغير ذلك من البحوث في هذه الدائرة مثل كشف أو غطاء الوجه، إلا أن ردة فعل البعض كانت عنيفة عند ظهور الدكتور "أحمد الغامدي" وزوجته في برنامج تلفزيوني، واصفين ذلك بالفعل "الحرام" و"الفتنة"!
إذ يقول أحد الدعاة ما نصه: "من فتن هذا العصر انحلال الغيرة والرجولة تحت ستار الخلاف الفقهي، يعمد أحدهم إلى امرأة خصه الله بها فيعرضها أمام الناس، ويل لمفتتحي أبواب الفتنة". ويقول آخر: "نحن في معركة تدور رحاها حول ستر المرأة، ويتعارك طرفاها حول الأمر باللباس وهو الطرف الرحماني، ونزع اللباس وهو الطرف الشيطاني، ولما كان الفريق الشيطاني اليوم قد جعل عنوان هذه الجولة نزع الستر الواجب عن وجه المرأة، فإننا نشن الغارة عليه بما يفضح أمرهم"!
في الماضي كان يقول بعض الدعاة عن الذي يسمح لبناته بالتعليم في المدرسة "ديوث" (لا يغار على حريمه)، وذات الوصف عن الذي يدخل في بيته التلفزيون، وفيما بعد الذي يدخل في بيته "الدش الفضائي"، وأيضا عن الذي يسمح لأهله باستخدام الجوال، وها هم اليوم يكررون الوصف لمن يسمح لزوجته بكشف وجهها!
والسؤال المطروح هنا: إذا كانت مسألة الحجاب خلافية. فلماذا يتهم المخالف بفعل الحرام ويطعن في دينه؟ خاصة أن الدعاة دائما ما يقولون عن اختلافات الفقهاء إنها "غذاء للعقل وغربلة للفكر"، ويقولون أيضا عن المنكرين لغطاء الوجه "هؤلاء نتوجه إليهم بالإنكار العلمي مع عميق المودة والحب في الله". فما الذي حدث إذًا؟
لقد دأب الدعاة ورجال الدين على الإشادة بالحجاب دائما، والصعود به إلى الدرجة الأخلاقية المطلقة ومحور الإيمان والالتزام الديني للمرأة المسلمة، إلى جانب التخويف من الغرب والسفور والاختلاط حتى لا يبقى شيء من القيم الأخلاقية والدينية للمرأة إلا ويدخل في إطار الحجاب.
واهتمام الدعاة بالحجاب ليس من الناحية الشكلية، وإن كان ذلك محور دعوتهم، وإنما يقف وراء ذلك تفريغ طموح المرأة في المشاركة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والنيل من الهوية الإنسانية لها، وإلا فإن كشف وجه المرأة يتفق على مشروعيته الكثير من علماء المسلمين.
البعض قد يقول إن حرب العلمانيين والليبراليين على الحجاب تبدأ من خلال الهجوم على النقاب وغطاء الوجه مستغلين في ذلك اختلاف العلماء في هذه المسألة، لأنهم يعلمون أنها متى تحققت سيسهل ما بعدها، وعندما ينجحون في حربهم هذه، يبدأ الهجوم على الجلباب ثم غطاء الرأس ثم على الأكمام الطويلة حتى تخرج المرأة سافرة ومتبرجة من بيتها تخالط الرجال، وكما قال الله تعالى: "ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلا عظيما".
يقول أحد رجال الدين: "وما قاسم أمين عنا ببعيد! فعندما كان يطالب بكشف الوجه في كتابه الأول "تحرير المرأة". إذا به يكشف عن خبثه في كتابه الثاني "المرأة الجديدة" فيشن الحملة التشويهية على الحجاب كله! والمؤمن لا يُلدغ من جحر مرتين".
وعلى هذا المنوال، يبدأ الدعاة بسرد كيف حدث السفور في البلدان العربية الأخرى، متجاهلين في الوقت نفسه أن المرأة هناك تعيش أجواء الممارسة الاجتماعية والاهتمام بالوعي الثقافي والاقتصادي والسياسي إلى جانب الالتزام الديني والمحافظة على العفة والأخلاق وعلى العلاقات الأسرية والقيام بواجب الأمومة!.
إن الهدف من الحجاب الذي ينادي به الدعاة ورجال الدين ليس في شكله من كشف أو غطاء، فهذه ليست مشكلة بالنسبة للدعاة وحتى للمجتمع الذي بدأ يدرك أن الالتزام بغطاء الوجه مرده إلى العرف والتقاليد، وإنما الهدف هو التأكيد التام على حجب المرأة وحبسها في البيت لممارسة دور الأمومة والحضانة وخدمة الزوج فقط على حساب كرامتها وحرمانها من شخصيتها الإنسانية والاجتماعية.
لا شك أن الأمومة وتربية الأطفال دور مهم وعظيم للمرأة، ولكن هذا لا يعني أبدا أن تنحصر شخصية المرأة في هذا الإطار فقط، فللمرأة الحق في تنمية طاقاتها وكسب هويتها في المجالات التي يحتاجها المجتمع، حينها ستكون أقدر على تربية الأطفال؛ لما تملكه من فهم واسع وشخصية اجتماعية سليمة تؤثر إيجابيا على أطفالها.
كثيرا ما نتساءل في المجتمع عن أسباب عدم قدرة الأطفال في الحديث أمام الناس وخجلهم الشديد؟ ونقيس ذلك على أطفال الغرب الذين يتحدثون ويتصرفون كالكبار، والسبب في ذلك يعود إلى نضوج المرأة هناك في تعاملها مع أطفالها، فهي وصلت إلى مدارج عالية من التعليم في الطب والهندسة ومشاركة الرجل في الصعود بالواقع الاجتماعي من موقع المسؤولية والقيم الإنسانية التي أرادها الله عزّ وجل للإنسان في عملية استخلافه على الأرض.
من المعلوم أن تجميد المرأة عن المشاركة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية يؤدي إلى تكريس واقع الجهل والتخلف في المجتمع، ونحن اليوم نعيش ظاهرة التغير في الأعراف والتقاليد والأفكار، التي تدعونا إلى الانسجام معها شئنا أم أبينا، والمرأة اليوم تحس بوجودها وكيانها المستقل وهي تطالب بهذا الاستقلال.. أليس ذلك من حقها؟
لا يمكن أن يؤدي حجب المرأة عن المجتمع بذريعة الحجاب إلا إلى مزيد من قهر المرأة وتكريس التخلف والتبعية للرجل في المجتمع.
أعتقد أن السبب الذي يقف وراء اتخاذ الدعاة ورجال الدين لمثل هذه المواقف السلبية ضد المرأة يعود إلى الثقافة القديمة المتوغلة في أعماق الذهنية المسلمة، والرواسب التاريخية القديمة التي تقوم على أساس المجتمع الذكوري الذي لا يرى للمرأة مكانا وشأنا سوى الخدمة في البيت وإرضاع الأطفال وما إلى ذلك.