كثيرون منا يحفظون البيت القائل: "أبت اللقافة أن تفارق أهلها، وأبى اللقيف بأن يكون حكيما"، وتعريف اللقافة حسب علم النفس: "حب الاستطلاع"، وأنها حالة تحدث نتيجة الفراغ المعرفي لدى الفرد، مدفوعة بأثر إنزيمات تفرز منسجمة مع حالة زيادة أو نقصان معدلات الفراغ المعرفي في الذاكرة. واللقافة -كما أراها من وجهة نظري- أعلى درجات الفضول، فهي تدخلٌ سافرٌ يتجاوز حدود الاستطلاع المعقول، بل ويتجاوز معه حدود حرية الآخر والدخول إلى النوايا والإجابة عن هموم ومشكلات الآخرين، والتدخل فيما لا يعنيه على الإطلاق أحياناً، وهذا التعريف يشمل سلوك (الملقوف) ويشرحه إلى حد ما، لكنه لا يفسر (لماذيته) وماهيته. الملقوف يستطيع أن يقدم لك الفتوى الدينية، ويعلمك عن الأفضل لك ولصحتك، ولا يتوانى في الإعلان عن حرصه الشديد على سمعتك ومصلحتك أيضاً، والملقوف شديد الاعتداد بمعلومته حتى وإن كانت خاطئة، فهو في الواقع يعيش الوهم أكثر مما يعيش الحقيقة والواقع والمصداقية.

ولدينا في الثقافة العربية كثير من نماذج الشخصيات الطفيلية (المحبوبة) أحياناً، التي ارتفعت أسهم المعاصرين منهم إلى درجة (الملاقيف)، والتاريخية منها الحقيقية أو الأسطورية كأشعب الذي احتفى به توفيق الحكيم، وجحا الذي كتبت عنه كثير من المدونات والمواقف الفكاهية، لن تصل في قبحها إلى ما نعرفه اليوم، وما نكتشفه من عشرات الألوف من المتطفلين الذين يرتقون إلى رتبة (الملاقيف)، فمع تعدد أشكال الاتصال الإنساني، بات احتمال اصطدامك بأحدهم كبيراً جداً، وأكاد أجزم أنه حتمي الحدوث، فالملاقيف عادة يدعون معرفتهم كل شيء، ويفتون في كل شيء كما يظنون ويعلنون ببرود غريب، ولديهم الاستعداد الكامل للمجادلة فيما لا يعنيهم، وما لا يعلمون من أمره شيئاً أصلاً، لكنهم على الرغم من كل ذلك يستمرون في لقافتهم..!

ومما أتذكره من الحكايات الشخصية، أنه وبعد عودتي ذات ليلة من أمسية شعرية، أقامها نادي جازان الأدبي بمناسبة اختيار الرياض عاصمة الثقافة العربية في العام 2000م، وكنت أحد الشعراء على المنصة، وحين وصلت إلى منزلي سمعت رنين الهاتف، فإذا بأحد من أعرفهم يفاتحني بما قال إنه مأخذ علي في مفردة (الرفاق) الواردة بأحد النصوص! ويجب أن أتنبه إلى ذلك، وأن ذلك مما جاء به الشيوعيون والبعثيون، وليس من صلب ديننا أو تقاليدنا! بينما لم يكن أصلا توظيف المفردة يوحي بأي شيء من ذلك، وليس له علاقة بما ذهب إليه ذلك الملقوف، أتذكر حجم دهشتي من تفسير أخينا للأمر، وما زلت مندهشاً حتى اليوم وغداً من كل تلك الجرأة وذلك التخريف، واللقافة التي دخل من خلالها حتى إلى نوايا الناس وغيبيات الله. واليوم ومن على منصات التواصل الاجتماعي، سيذهلك يوماً ما أحدهم حين يلاحظ عليك أفعالك وكلماتك، ويملي عليك ما يجب أن تفعله مع الآخرين، فهو الحريص على الناس وسلوكياتهم، ويهمه أن يظهر الناس على ما يحب هو، لا على ما يحبون هم!!

وقد فضحت "الميديا" عموماً عشرات الألوف من هؤلاء المتطفلين، وقدمتهم في قوالب ساخرة في أكثر من موقع، لكن الواضح أن المعاناة ستستمر في ظل توارث الجينات ثقيلة الدم.

المشكلة الكبرى تكمن في أن أغلبهم إن لم يكن جميعهم يحفظون عن ظهر قلب، ما جاء في الأثر عن قول الرسول (صلى الله عليه وسلم): "من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه"، وهذا في الواقع درس عظيم يختصر كل شيء لو أراد المرء أن يتعلم فلسفة الحياة وفنونها وآدابها، لكن الملاقيف لا يعلمون.