التمييز والتفريق والتصنيف بين الأطروحات والتناولات الثقافية والفكرية لم يكن حاضرا أو حتى ذا أهمية في الأزمان والأوقات والمراحل السابقة، إذ إن البنية الفكرية والعقلية لمعظم فئات المجتمع السعودي كانت متواضعة التأسيس، وكان الناس حينها يقرؤون ويطالعون أي مجلة أو صحيفة ولأي كاتب من أجل التثقيف المعرفي البدائي، بالإضافة للبحث عن المعلومات والأخبار والقصص السردية، وكانوا ينبهرون من أدنى طرح أو فكرة أو تناول، والمجال الأدبي كان يعد في قائمة اهتماماتهم المعرفية والثقافية، وبخاصة القصص والشعر والحكم والأمثال، حيث لم يكن هناك تطلعات وآمال تفسح المجال أمام النخب الثقافية القيادية بطرحها وتناولها بشكل عميق وكبير وواسع وصريح، إضافة إلى أن النقد الاجتماعي كان محدود الحرية والمساحة والسقف، لسببين: الأول، نظرة المجتمع للنقد بأنه تطاول وتجاوز للخط الأحمر المحدد من السلطة للمواطن، والسبب الثاني لم يكن هناك خدمات ومبادرات وتطلعات تدعو للنقد، فأي نجاح رسمي حكومي مقبول ومرحب به مهما يكن حجمه وعائده على المجتمع والبيئة والأفراد.

واليوم في عهد التميز والنضوج والتفاؤل والتسامح -عهد خادم الحرمين الشريفين- الملك عبد الله بن عبد العزيز رعاه الله، نرى الغث والسمين والزبد والنافع يتدافعون من كل حدب وصوب في تجاه ومصب واحد، وهو النقد بكل مساراته وآفاقه السياسية والاجتماعية والخدمية والتربوية والأمنية والتعليمية، وكأن اجتذاب القارئ أو القراء بكل فئاتهم وقدراتهم العقلية والثقافية لا يكون إلا بتلك الشفرة، شفرة النقد اللاسع، وكأن "المقال النقدي" صار ميزة وتميز لاجتذاب القراء والمتابعين، بغض النظر عن مدى الحاجة إليه والفائدة منه، أو استحقاقه لإفراد مقال مكون من 300 كلمة أو 400 أو600.. الخ، لتناول موضوع عارض أو متوهم، وهذه الدوافع والمنطلقات النفسية تسمى في علم النفس "النظرية الشرطية"، وهو أحد المصطلحات المهمة في علم النفس وفلسفة السلوك، الذي يصف عملية تعلم عن طريق ما يُعرف "بالمثير والاستجابة"، بعبارة أخرى تتم دراسة استجابة (رد فعل) الإنسان أو الحيوان على مثير ما وارتباط سلوكه بهذا المثير علما بأن هذه الاستجابة لم تكن ظاهرة قبل الدراسة؛ حيث ظهر هذا المصطلح على يد العالم الروسي إيفان بافلوف الحاصل على جائزة نوبل عام 1904 م في الطب لأبحاثه المتعلقة بالجهاز الهضمي.

وعلاقة الطرح النقدي أو المقالة ككل بالنظرية الشرطية واضح الارتباط، فحين يتناول الكاتب موضوعاً اجتماعياً ذات مرة، ويرى صدى وتفاعل وتعليقات القراء، يرتبط في ذهنه ونفسيته وعقله الواعي واللاوعي أن الاستجابة وقعت لأهمية المثير من الطرف الأول "العنوان أو الموضوع أو الأسلوب"، وحين يقوم نفس الكاتب بعرض موضوع آخر منخفض درجة ونسبة في النقد والأهمية، يجد أن الاستجابة انخفضت لذلك المثير الجديد، فيكتشف شفرة الطرف الآخر، وهي أن قوة النقد وتنوعه وحساسيته هي المثير الوحيد لتحقيق استجابة الطرف الآخر، وهو ما يقع فيه بعض الكتّاب والنقّاد المخضرمين والمبتدئين (مثلي)، وأشباه الكتّاب الذين سماهم الزميل الأستاذ أديب الآغا في مقال له بصحيفة الوطن بعنوان: "أشباه الكتّاب والفضاء المفتوح" المنشور يوم الجمعة 5 سبتمبر 2014، ويعني بذلك الذين يستأجرون من يكتب لهم.

ومع هذا وذاك، فليس القصد من الموضوع إلغاء الارتباط بين المثير والاستجابة، فهما من أركان المقالة المهمة والرئيسة، والعنوان غالباً ما يكون "صاداً أو جاذباً" وهو الخطوة الأولى لإثارة فضول القارئ وجذبه، كما يقول د. محمد الحضيف في موضوع له بموقعه بالإنترنت بعنوان: (المقال: فن الكتابة الصحفية)، لكن ما أحاول التوصل إليه هو التخلص من "آفة الإدمان النقدي" لكل صغير وكبير في الحياة والمجتمع والبيئة، نعم النقد إدمان، وخاصة إذا ما ارتبط بالاستجابة، فهذا يعني تطبيق نظرية بافلوف الشرطية على فن الكتابة، قبول القارئ للكاتب مرتبط بحجم وحساسية النقد.

هذا يعني أنني ككاتب ومثقف قيادي أو مبتدئ - سأظل - أستغني عن قبعات التفكير الست ما عدا السوداء، وهي طريقة ابتكرها واخترعها الطبيب إدوارد دي بونوا، وترمز القبعة السوداء لتمحيص والتماس السلبيات فقط في الفكرة والأعمال والمبادرات والإنجازات، حيث يُبرز الجانب المظلم والمتشائم في الإنجاز والأفكار حتى يقلل من العاطفة تجاه القرارات، ويجعل للعقل دوره في ترشيد القرارات، وتطبيقه في المقالة النقدية له أهمية حيث يضع الناقد أمام القيادة السياسية والإدارية بباقي المؤسسات والقطاعات رؤية واقعية للمخرجات التي يستفيد منها المواطن أو يأمل أن يراها أو عانى من غيابها أو روتينها، لكن ما ينبغي التزامه حين استعمال القبعة السوداء هو توظيفها بصورة معتدلة وموضوعية وأمينة، وألا تكون الطابع الأغلب على أطروحات ومواضيع الكاتب المثقف والناقد البصير، حيث دلت التجارب أن كثرة استعمال الشيء تفقد مع الوقت أهميته ووظيفته.