هناك إشارة لطيفة في لفظ "الغلو" ومعناها "اللغوي" تدل على الحالة النفسية التي تفهم من المعنى اللغوي، ومن ذلك قولهم: غلا القدر أي طاش الماء منه بسبب الحرارة، وهكذا تفعل الأفكار في صاحبها حين يتجاوز الحد في النظر إلى المسائل ويخرج عن حد الاعتدال إلى الشطط في الأقوال والأفعال والاعتقادات، فتخلق شخصية "طائشة" متوترة ومستعدة للقيام بالمعارك الضارية مع الآخرين بسبب فكرة قابلة للنظر وقابلة للخطأ والتصويب، بل ربما رجع عنها لو أرجع النظر فيها مرتين.

وقد جاءت النصوص الشرعية في التحذير من هذا المسلك الخطير كما قال تعالى: "يا أهل الكتاب لا تغلو في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق"، وقال: "قل يا أهل الكتاب لا تغلو في دينكم غير الحق"، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إياكم والغلو في الدين، فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو"، فالغلو كما قال ابن تيمية رحمه الله: "مجاوزة الحد بأن يزاد الشيء في حمده أو ذمه على ما يستحق ونحو ذلك".

إن الغلو في الدين يأتي على مسائل الاعتقادات فيوقع الناس في البدع والضلالات بالزيادة على القدر الشرعي ورفع البشر فوق منزلتهم الطبيعية، وجعلهم آلهة من دون الله، ويأتي على الزيادة في الدين بأن يخترع الناس أنواعا من العبادات لم يأذن بها الشرع، ويأتي على أنواع السلوك بحيث يعنت الإنسان على الآخرين ويحرم عليهم ما أحل الله لهم، أو يضيق عليهم بالمباحات، أو يتشدد في القضايا التي فيها سعة والخلاف فيها جائز ومشروع والعلماء تتعدد آراؤهم فيها، أو يحمل الناس على ما يطيق من الأفعال والعبادات، أو يتسرع في تكفير الناس وتفسيقهم وتبديعهم بلا منهج شرعي ولا هدى ولا كتاب منير.

إن الغلو لا يبقي على صداقة إلا وقطع أواصرها، ولا علاقة إيمانية إسلامية بين المؤمنين إلا ومزق علائقها، وما هذا التناوش الذي يحدث بين عباد الله المؤمنين إلا جزء من ممارسة "الغلو" في المواقف من الآخرين، فالأحكام المعلبة، وسرعة التصنيف والتفسيق، وتقديم سوء الظن على حسنه هو من صور الغلو التي لا تبقي ولا تذر، أوليس الغلو هو: مجاوزة الحد؟ فكيف إذا جاوز الإنسان الحد الشرعي، فاحتد في حمل فكرة سهلة، وجعلها هي المحك والفيصل بين الكفر والإيمان، أو بين السنة والبدعة، أو بين الهدى والرشاد؟

إن "التكفير" واستباحة الدماء والحكم على المجتمع بالجاهلية والضلال، ووصف مساجد المسلمين بأنها مساجد الضرار ومعابد الجاهلية، ومفاصلة المجتمع بسبب أخطاء يقعون فيها، أو مخالفات أو قصور في العبادة هو التجلي الأخير لقضية "الغلو في الدين"، فالنفسية الغالية تتشدد في كل شيء، وتنظر إلى الناس بأنهم هالكون ومنافقون، وهي في حقيقة الأمر تصب أنواع التزكيات على الذات وذم الآخرين، تنظر إلى أخطاء الناس دون النظر إلى صوابهم، والنبي عليه السلام يقول: "من قال هلك الناس فهو أهلكهم"، ولذلك فنفسية الغالي نفسية قابلة للترقي في مراتب الغلو حتى يقع في الفتن والقتل والقتال بسبب التكفير والغلو في مسائل الأسماء والأحكام.

إن أول وأكبر مصيبة وقع فيها "الخوارج" الذين هم موديل الغلاة التاريخي والمعاصر، هو افتراضهم أن الإنسان لا يجتمع فيه إيمان وكفر، ولا بدعة وسنة، ولا معصية وطاعة، ولا خير وشر، فكل من وقع في خطأ أو ذنب أو معصية فهو كافر مرتد، أو فاسد مهدر القيمة، وهذا المعنى هو الذي وقفت لأجله علماء أهل السنة، وفندوا أقوال الغلاة من الوعيدية والتكفيريين والخوارج الذين أعنتوا على أمة الإسلام وكفروها واستباحوا دماءها.

ومن مراتب ذلك ضيق الصدر من قضايا الاختلاف المقبول بين أمة المسلمين، وحمل الناس على الأقوال بصلف وشدة، وإهدار أقوال المخالفين والحكم عليهم بالضلالة بسبب اختلافهم الفقهي المقبول، واستباحة أعراضهم تفسيقا أو سبا أو إنكارا بشدة، وهذه القضية هي قضية ممهدة لخلق حالة من "الغلو" الذي يتطور عند الإنسان حتى يقع في قضايا الغلو الكبرى، ولذا يجد الناظر في أقوال العلماء المعتدلين والراسخين في العلم من السعة في قبول الخلاف، وتعدد زوايا النظر في المسائل، وحمل المجتهد على أحسن المحامل، ما يجعل البون شاسعا بين مسالك أولئك العلماء، وبين سلوك كثير من المعاصرين في النظر إلى مسائل الخلاف الشرعي والفقهي في قضايا العلم والعمل.

إن النفسية "الغالية" لا توسط عندها، فهي لا تقبل إلا بالموافقة التامة، ولا تفرق بين درجات ومراتب الخلاف، فالمخالف له في مسألة فقهية مثل المخالف له في مسألة الألوهية، فالناس سواسية في المخالفة، وسواسية في الموافقة، بلا تفصيل، وهذا جعل "الوفاق" مشكلا وعزيزا، وما أجمل ما قاله يونس بن عبدالأعلى "رحمه الله" حين قال: ما رأيت أعقل من الشافعي، اختلفت أنا وإياه في مسألة، فلما خرجنا أمسك بيدي وقال: يا يونس، وما يضرنا إن نختلف في مسألة ونبقى إخوة. وكم نحن بحاجة إلى هذا المنطق الرشيد، من رجل إمام في الدين، عرف المنهج الحق، فقال كلمته الشهيرة في الخلاف: "قولي صواب يحتمل الخطأ، وقول غيري خطأ يحتمل الصواب"، ولذلك تجد الرجل الغالي يجعل مسائله من قبيل "الاجماعات" التي لا يوجد فيها خلاف، حتى قال فيهم الإمام أحمد: من ادعى الإجماع فقد كذب، وما يدريك لعلهم اختلفوا، إنما كان ذلك قول بشر والأصم، ولأنهم غلاة، فقد كانوا يريدون قطع الطريق على المخالف بدعوى الإجماع الظني، الذي ينقضه قول عالم آخر معتبر.