من السابق لأوانه معرفة ما إذا كانت الجهود الدولية المكثفة التي نشطت في الأسابيع الأخيرة، ستنقذ مفاوضات التسوية السياسية التي دفعت إليها الولايات المتحدة كلا من حكومة نتنياهو ومحمود عباس للخروج من الجمود والفراغ؟ ستثمر أم لا؟ فلا يبدو أن رئيس الحكومة الإسرائيلية المعزز بدعم غير مشروط من اللوبي القوي في الكونغرس الأمريكي مستعد للتراجع عن مواقفه والمغامرة بوضع حكومته نفسها أمام تحدي الانهيار أو التعديل. كما أن من المستحيل على رئيس السلطة الفلسطينية الذي قبل بالمفاوضات المباشرة على مضض بعد أن ربط دخوله فيها بتحقيق تقدم ملموس في الملفات النهائية، الانسحاب منها مع انطلاق بناء المستوطنات، إذا لم يقبل بأن يفقد صدقيته السياسية عند شعبه والعالم، ويصبح ألعوبة في يد الدبلوماسية الأمريكية والغربية. وخطر انهيار المفاوضات القريب هو الذي يفسر التركيز الاستثنائي لخطاب الرئيس الأمريكي أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة (23سبتمبر) على مسألة المفاوضات، وتأكيد ضرورة تجميد المستوطنات من أجل إتاحة الفرصة لتقدم أكبر في المفاوضات الإسرائيلية الفلسطينية الراهنة. وكان الاتحاد الأوروبي قد أصدر بيانا في الأيام السابقة يدعو فيه إسرائيل أيضا إلى الاستمرار في تجميد الاستيطان وإعطاء فرصة للسلام.

وبالرغم من التنازلات السياسية الكبيرة التي تضمنها خطاب الرئيس الأمريكي، وفي مقدمها التأكيد على إسرائيل بوصفها الوطن القومي للشعب اليهودي، وإدانته العنف ضد الإسرائيليين، ومطالبته الدول العربية بتنفيذ التزاماتها وبدء التطبيع، إلا أن تشديده على معاناة الفلسطينيين، وحقهم في الحصول على دولة خاصة بهم، وتحديد أفق سنة واحدة للتوصل إلى اتفاق يسمح بإقامة هذه الدولة، يبرهن على قوة التزام تجاه قضية الشرق الأوسط لم يظهرها من قبل أي رئيس أمريكي سابق. ولا يمكن لمثل هذا الموقف الذي يأتي قبل أشهر من الانتخابات النصفية التي تهدد مركز الرئيس الأمريكي بحرمانه من الأغلبية البرلمانية، أن يكون مبادرة شخصية من قبل الرئيس، أو ألا يكون مدعوما على الأقل من قبل جزء من الإدارة الأمريكية، في مستوياتها المختلفة، وربما العسكرية في مقدمها، التي تشعر بأن أي إخفاق جديد في المنطقة سوف يزيد من الضغوط على المصالح الأمريكية وربما دفع إلى تطورات سياسية وإقليمية لا يمكن السيطرة عليها.

لكن على ماذا يراهن أوباما ومن يدعم موقفه في الإدارة الأمريكية عندما يورط نفسه في الانخراط بهذه القوة في مسألة المفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية، ويتحمل نتائج احتمال الفشل الذي سيضعف إلى حد كبير مركزه السياسي داخل هذه الإدارة نفسها، مع علمه بأنه لا يوجد مخرج للانسداد الراهن في هذه المفاوضات؟

هناك بالتأكيد حسابات المصالح الاستراتيجية الكبرى الإسرائيلية. ويدرك الإسرائيليون الذين هم أصحاب القرار النهائي، أن مستقبلهم السياسي والاقتصادي، بل وجودهم في المنطقة، لا يزال، بالرغم مما وصلوا إليه من تفوق عسكري واقتصادي وتقني، مرتبطاً بالدعم الغربي، السياسي والعسكري والمالي. بل إن إسرائيل تعيش بكفالة غربية كاملة منذ تأسيسها. وسيؤدي سحب هذه الكفالة، وهذا ما يلوح به الرئيس الأمريكي بصورة مواربة، إلى زعزعة استقرار إسرائيل وتفوقها وازدهارها. ولا يحتاج سحب الكفالة إلى جهود كبيرة من قبل واشنطن، يكفي أن تترك إسرائيل تواجه وحدها قرارات الأمم المتحدة وانتقادات المنظمات الإنسانية الدولية.

وربما جمع الرئيس الأمريكي بين سياسة العصا هذه وسياسة الجزرة المتمثلة في الالتزام تجاه إسرائيل بمتابعة ملف النووي الإيراني ومنع طهران من الحصول على السلاح النووي حتى لو اضطر إلى المغامرة بدعم خيار القوة، الإسرائيلي أو المشترك.

وفي المقابل يراهن نتنياهو في هذه المواجهة مع الرئيس الأمريكي الذي ربط جزءا من مصيره السياسي بالالتزام بإيجاد حل سريع للنزاع العربي الإسرائيلي وتحقيق المصالحة بين العالمين العربي والإسلامي والغرب، على عاملين: تزايد نفوذ اليمين العنصري والاستعماري في الرأي العام الإسرائيلي، وهو ما أراد أن يستثمره عندما أعلن عن ربطه المصادقة على أي اتفاق سلام مع الفلسطينيين باستفتاء يستثني العرب الإسرائيليين منه. والعامل الثاني هو احتمال عزل أوباما في الكونغرس نفسه، ووضعه في موضع الأقلية. والهدف كسب الوقت حتى يأتي رئيس أمريكي جديد أكثر تعاطفا مع مشروع إسرائيل التوسعي والاستيطاني. ولا يزال الرأي العام الإسرائيلي في أغلبيته يعيش على أمل ألا ينجح الرئيس أوباما في تجديد ولايته للمرة الثانية، وأن يحل محله رئيس جديد يحرر إسرائيل من الضغوط الدولية ويطلق يدها من جديد في الضفة والقدس وباقي الشؤون الشرق أوسطية.

لكن من الواضح أن الرأي العام الأمريكي الذي ضحى بالكثير من أجل إسرائيل، ومعه البلدان الأوروبية الكبرى، لم تعد تؤمن بمقدرة إسرائيل وحدها، على حماية مصالح الغرب الاستراتيجية والحيوية في الشرق الأوسط، وأن اللجوء إلى خيار القوة والحرب والتدخل العسكري الدائم الذي تمثل في توكيل إسرائيل، أصبح ذا مردود سلبي، وأنه لا بد على الأقل من دعم هذا الخيار بمسار مواز من المفاوضات. وليست المفاوضات الإسرائيلية الفلسطينية في التحليل الأخير سوى مفاوضات عربية غربية.

لا يمثل هذا الموقف الغربي الجديد أي تخل عن إسرائيل أو تراجع عن دعمها وضمان أمنها وقوتها بل تفوقها العسكري والاقتصادي. وهذا ما لم يتجاهله خطاب الرئيس أوباما في الجمعية العمومية. إذ أشار إلى إدراك الأوروبيين المتزايد أن دعم إسرائيل توسعية وهجومية واستعمارية من دون قيود لم يعد سياسة غربية رشيدة ويمكن الدفاع عنها. بل أكثر من ذلك يدرك الغربيون اليوم أكثر بكثير من الإسرائيليين السكارى بما حققوه من تقدم وتوسع على حساب جيرانهم في العقود الماضية، أن بقاء إسرائيل واستقرارها على الأمد المتوسط والطويل رهن التوصل إلى اتفاق مع العرب والفلسطينيين، وأنه لن يكون هناك فرصة أفضل من الفرصة الراهنة لتوقيع اتفاق يضمن لإسرائيل الاحتفاظ بأكبر ما يمكن من مكاسبها الترابية والسياسية.

بمعنى آخر يشعر الغربيون بحق أن وجود دولة فلسطينية هو الضمانة لوجود إسرائيل والاعتراف بشرعيتها بعد حقبة النزاع الطويل. فمن دون هذه الدولة ستبقى إسرائيل، مهما تضخمت وراكمت من قوة، دولة استعمارية، وجيبا خارجيا لا يستقر ولن يستقر. سيظل الإسرائيليون يشعرون بالغربة عن المنطقة وبالعداوة لها، وستظل المنطقة تشعر بهم كمصدر تهديد دائم، وتجسيد لاستمرار السياسات الاستعمارية التقليدية التي تكاد، بعد زوال نظام جنوب أفريقيا العنصري، تختفي من على كامل الكرة الأرضية باستثناء المنطقة العربية.