أي تعليم يستهدف تطوير القدرات والارتقاء بالمستويات الفردية يعني بناء ذات تنفتح أمامها مزيد من الفرص والخيارات الوظيفية والإنتاجية التي ينبغي أن تضعها الدولة في خططها التنموية فيما يتعلق بتنمية الموارد البشرية، فمن يحصل على الدبلوم ويتجه إلى البكالوريوس يفترض أن يصبح أمرا مقدرا، ومن يحصل على البكالوريوس ويصعد بمساره العلمي إلى الماجستير يحصل على تقدير أعلى وهكذا يرتقي الإنسان وترتقي معه قدرات وطنه باعتباره عنصرا مساهما في تطوير المجتمع والوطن.
حينما وضعت الدولة في خططها مشروع الابتعاث الداخلي أتصور أنه جاء في إطار تكامل صناعة الإنسان والأجيال للمستقبل، بحيث يحصل كل راغب في الازدياد العلمي والتطور على فرصته، داخليا وخارجيا، دون أن يكون هناك تمايز لأن الجميع على مورد علمي واحد وبهدف وخطة واحدة وواضحة تدعم خيارات الدولة في تطوير أنشطتها وتنويعها وتأهيل الكوادر الوطنية لمرحلة تتطلب عناصر وجدت حظها من العلم والتعلم.
الحاصل الآن أن هناك تفرقة واضحة بين الابتعاثين الداخلي والخارجي، وإذا تعاملنا من قبل مع مشروع الابتعاث الخارجي كانفتاح علمي على العالم والعلم ومكاسبه ثمينة، فإن الابتعاث الداخلي لا يقل عنه فهو أيضا مشروع طموح في تأهيل مواردنا البشرية وتوظيفها من خير جامعاتنا العلمي، وإذا انتقصت حقوق هؤلاء مقارنة بنظرائهم في الابتعاث الخارجي فذلك معيب لجميع جامعاتنا وعدم أهليتها وقدراتها، ويصبح وجودها تحصيل حاصل.
معاناة طلاب الابتعاث الداخلي لا تتعلق بالفرص الوظيفية وحسب وإنما تتعدد لتجعلهم وكأنهم فاقد علمي غير جدير بالاهتمام وهم الذين تحتفظ بهم بلادنا كثروة بشرية مثل غيرهم من الخريجين والذين يترقون في العلم ويتأهلون ليواكبوا التطور البشري في المجالات المختلفة، وتقع عليهم ذات المسؤوليات التي تقع على عاتق غيرهم في مسيرة البناء والعطاء والتنمية الشاملة، وحين يعانون الأمرين لأن كل ذنبهم أنهم مبتعثون داخليا فهي مشكلة الجهات التي ابتعثتهم والتعليم العالي والجامعات التي درسوا بها.
بحسب متابعتي لأوجه المعاناة التي يقاسيها طلاب الابتعاث الداخلي فقد وصل عددهم إلى حوالى 75 ألف طالب وطالبة، يتقاسمون هموم وانتقاص لا محل له من الإعراب العلمي والتأهيلي، فهم لا تصرف لهم مكافآت، ويمنعون من العمل في القطاعين العام والخاص، ولا يشملهم نظام حافز، وذلك وضع يجعلهم وكأنهم يعيشون حصارا اقتصاديا من كل النواحي خاصة لمن يدرسون خارج مناطقهم، ولنا أن نتصور ظروف الحياة التي يعيشونها في ظل الإيجارات المرتفعة وشراء الكتب والمواصلات وطباعة البحوث وعمل العروض.
ميزان الابتعاث بهذا الوضع من المعاناة التي يعيشها طلاب وطالبات الابتعاث الداخلي مختل وغير متزن، وذلك تترتب عليه أضرار نفسية عميقة أقلها الإحباط نتيجة لعدم الاعتراف بكسبهم العلمي وتأهيلهم وكأنهم درسوا في جامعات غير جديرة بأن تنافس وظيفيا وتفتح أبواب الحياة والمستقبل لهم، فيما جامعاتنا تزحمنا بتصنيفات عن أسبقيات في "الرانكينغ" العربي والدولي، وأولى بها أن يحصل حتى طلاب البكالوريوس فيها على عروض وظيفية تنافسية لأنهم درسوا في جامعات مرموقة، ولذلك فإن المسألة ببساطة هي أنه مع كل معاناة يعانيها هؤلاء الطلاب هي بمثابة انتقاص لقيمة تلك الجامعات، فمن غير المقبول أن يتشرد الخريجون في القطاعين العام والخاص دون النظر إلى قيمتهم العلمية وتخرجهم في جامعات ترى أنها ذات مكانة علمية دولية متقدمة.
منتهى المشكلة هي أن يتم تنسيق لتعزيز الاعتراف بقدرات طلاب وطالبات الابتعاث الداخلي، وجعلهم في وضع تنافسي يليق بما حصلوا عليه من علم وشهادات من جامعات كبيرة، يفترض ألا تغامر بتخريج لا جدوى له، وأول إنصاف هذه الشريحة وآخره هو أن تتم مساواتهم بطلاب الابتعاث الخارجي وطلاب الجامعات الحكومية، وذلك موضوعي وبسيط إذا كانت الجامعات تثق في قدراتها وطلابها ومناهجها والتعليم العالي بدوره يثق في قدرات الجامعات التي يشرف عليها، فإذا وجدت تلك الثقة فهي من نصيب هؤلاء الخريجين بالضرورة، وإذا لم توجد ثقة فتلك مشكلة الجامعات والتعليم العالي ويجب الاعتراف حينها بذلك وإعادة تصحيح المسار.