نشر قسم التحليل السياسي بـ"مركز الدراسات الأميركية والعربية" في واشنطن يوم 17 أكتوبر الحالي، تحليلاًً حول تباين الأهداف الأميركية مع تركيا فيما يخص الأولويات حيال سورية، استهله نائب وزير الدفاع الأميركي، جون كيربي، الذي أطلق تهديداً مبطناً لتركيا نهاية الأسبوع الماضي خلال سريان المحادثات المشتركة رفيعة المستوى في كل من أنقرة وواشنطن، إذ قال: "ليس لدى الأتراك مصلحة فحسب، بل هناك دور ينتظرهم" داخل ائتلاف واشنطن، مستدركاً أنه "تمت ممارسة ضغط عليهم للعب دور" مميز.
أتى الموقف الأميركي ثمرة لقاء عقد في واشنطن ليوم واحد ضم قادة عسكريين كبارا من 22 دولة مشتركة في الائتلاف، لبحث توحيد الرؤية والجهود "لمحاربة الدولة الإسلامية في سورية (داعش)، ترأسه قائد هيئة الأركان الأميركية، مارتن ديمبسي، كما حضر جلسة الافتتاح الرئيس باراك أوباما. لم يفلح اللقاء في زحزحة موقف تركيا التي تسعى للضغط على واشنطن لإنشاء منطقة عازلة داخل الأراضي السورية – مما يتيح لأنقرة حرية الحركة وترحيل معظم اللاجئين السوريين إليها قسراً. بل ذهبت أنقره إلى إطلاق تمايز موقفها عن موقف واشنطن، التي بلورت نظرة مختلفة استناداً إلى مصالحها الممتدة عبر العالم.
كانت توقعات الولايات المتحدة من اللقاء شديدة التواضع؛ إذ أوضح الناطق الرسمي باسم قائد هيئة الأركان أن أميركا لا تتوقع أن يسفر عنه اتخاذ قرارات جديدة أو التزامات متوقعة من الأطراف المشاركة. وقال إن الهدف "لقاء بعضنا البعض للبحث في الرؤية والتحديات ومعالم المسيرة المقبلة".
استبعد الرئيس أوباما أيضاً التفاؤل وصرح بجملة لا تنم عن ترتيبات ينبغي اتخاذها داخل اللقاء. وقال "طبيعة الحملة ستكون طويلة الأمد.. سنشهد فترات نحقق فيها إنجازات وأخرى تميزها الانتكاسات". كما جاء التوضيح على لسان مسؤولي إدارته بأن الاستراتيجية الأميركية الراهنة تنصب على "العراق أولاً".
كان الرئيس التركي رجب طيب إردوجان أكثر وضوحاً من نظيره الأميركي، إذ صرح أمام طلبة جامعة "مرمرة" في إسطنبول أن أكبر تهديد تواجهه تركيا مصدره "لورانسات العرب الجدد" الساعين لزعزعة الاستقرار في الإقليم. وأوضح أن "الصراع في هذه المنطقة تم تصميمه قبل قرن من الزمن.. وواجبنا يستدعي إيقافه". رمى إردوغان للفت انتباه كل من يعنيهم الأمر بأن بلاده تنوي العودة إلى حدود وترتيبات الحرب العالمية الأولى– قبل تقسيمات سايكس– بيكو، وإحياء حلم هيمنة الإمبراطورية العثمانية.
لخص معهد "كارنيجي للسلام الدولي" أساس الخلاف الأميركي– التركي المعلن بالقول: "يتبنى أعضاء الائتلاف مفاهيم متباينة فيما يخص آلية استتاب الاستقرار في الإقليم، بل لا تتوافر أرضية مشتركة بينهم حول تعريف التهديد الأساس" الذي ينبغي التركيز عليه. وأضاف "لدينا كل هؤلاء اللاعبين الذين يتطلعون لتحقيق أهداف مختلفة وفي بعض الحالات تبرز مشاعر الكراهية العميقة بين طرف وآخر".
بعد اشتداد حدة القتال في مدينة عين العرب (كوباني)، نأت تركيا بنفسها عن التدخل لرغبتها في توفير الظروف المناسبة لمسلحي داعش للسيطرة على المدينة وإزاحة الأكراد من موقع مميز بالقرب من الحدود المشتركة مع سورية. بيد أن صمود وعزم القوى الكردية واستماتتها في الدفاع عن مدينتهم مكناها من صد وإرجاع المسلحين من معظم أحياء المدينة ومشارفها.
من السابق لأوانه الجزم بمصداقية وفعالية القصف الجوي للمقاتلات الأميركية والتحقق من ادعاءات إلحاقها خسائر كبيرة بمسلحي داعش، خاصة وأن القوات الأميركية لم تضع مساندة القوى الكردية نصب أعينها منذ بدء الهجوم على المدينة، نظراً للوجود الطاغي لحزب العمال الكردي وتشكيلاته الرديفة ممثلة في وحدات حماية الشعب في المنطقة، مقارنة مع تحركها العاجل ضد داعش في مشارف أربيل في العراق.
لم تكن عين العرب (كوباني) ضمن أولويات السياسة الأميركية التي عبَّر عنها وزير الخارجية، جون كيري، بقوله إن المدينة "لا ترتقي إلى هدف استراتيجي ضمن أطر السياسة الأميركية". أما الغارات الجوية الأميركية في محيط المدينة فاستدعتها التطورات الميدانية لإبقاء تنظيم داعش ضمن الحدود المرسومة له، كأداة هدم الدول الوطنية وتقسيم المجتمعات العربية وفق أسس طائفية ومذهبية.
لم تحقق الحرب التي تقودها الولايات المتحدة، في سورية والعراق نتائج ملموسة ضد داعش في البلدين، بل أسهمت في زيادة حدة التوتر في عموم المنطقة، الذي من شأنه إشعال الحرب في عموم المنطقة. وأقرت وزارة الدفاع الأميركية بعسر تحقيق الأهداف عبر الحملة الجوية، مما يعزز موقع ودور تركيا في الحملة الراهنة.
مضت تركيا في ترتيب أولوياتها بمعزل عن الأهداف الأميركية، بما فيها الانخراط المباشر في الأزمة السورية، مما وضعها في موقع مغاير لائتلاف واشنطن في هذا الظرف بالذات، وسعت لابتزاز الأخيرة بأنها على استعداد لدخول الحرب وإنقاذ "كوباني"، شريطة التزام الولايات المتحدة بهدف تدمير ليس تنظيم داعش فحسب، بل نظام بشار الأسد.
استندت تركيا في قراءتها السياسية إلى طبيعة فهمها لديناميات الجانب الأميركي، واعتقادها أن الولايات المتحدة غير جادة وينقصها العزم الضروري لشن حملة ناجحة في المنطقة، فضلاً عن ضيق ذرع الإدارة بقضايا الإقليم وتفضيلها بذل الجهود على المشهد الداخلي الأميركي في الفترة القصيرة المقبلة.
كما تدرك تركيا محورية دورها في المعركة الحالية وأشد ما تخشاه تحملها للجزء الأعظم من القتال ضد الدولة الإسلامية فيما لو انصاعت لرغبة واشنطن؛ فضلاً عن تداعيات المعركة التي ستصب في صالح الدولة السورية وتحفزها لاستعادة السيطرة على أراض فقدتها، إلى جانب إدراكها استغلال سورية الأوضاع وتقديم الدعم لأكراد تركيا في قتالهم ضد أنقرة "انتقاما" لدعم تركيا قوى المعارضة السورية.
استشعرت تركيا غياب تماسك الاستراتيجية الأميركية حيال الدولة الإسلامية، وتشير تصرفاتها إلى عدم الثقة بوجهة الاستراتيجية الأميركية التي تأرجحت في السنوات الثلاث الماضية بين هدف الإطاحة بالأسد إلى التكيُّف مع بقائه في السلطة، ومن توفير الدعم لقوى المعارضة السورية إلى تفضيلها بقاء هياكل الدولة السورية على حالها.
الرؤية الأميركية، بالمقابل، أوجزتها صحيفة "الواشنطن بوست" حديثاً أنه "باستطاعة تركيا القيام بالمزيد؛ بل هي تريد من الولايات المتحدة حضورها وإنجازها للمهمة" نيابة عنها. بينما حقيقة الأمر تدل على حث الإدارة الأميركية لتركيا على الانخراط وإنجاز المهمة بالتساوق مع استراتيجية الرئيس أوباما المعلنة، وليس استناداً إلى ما تقتضيه المصالح التركية.
يجمع الطرفان الأميركي والتركي على عدم التعرض لتنظيم داعش بغية القضاء عليه، فهو يخدم أجندة الطرفين في إبقاء فتيل الاشتعال ملتهباً وتوظيفه كأداة ضغط على النظم والدول المعارضة للهيمنة الأميركية. ضمن هذا المنظار تتباين الرؤية التركية مع واشنطن، إذ لا تزال الأولى تضع إسقاط الدولة السورية على رأس سلم أولوياتها، بينما الأخرى أقضت مصالحها الآنية "التركيز على العراق أولاً" لضمان استمرار الكيان الكردي باستقلالية عن الدولة المركزية – بصرف النظر عن هويتها الطائفية.