نشر "مركز ستراتفور الأميركي للدراسات الإستراتيجية والأمنية" ورقة بحثية لجافين كاوثرا، مدير مركز إدارة الدفاع والأمن في جامعة ويتواترسراند، جنوب أفريقيا، وتتناول الورقة وقائع الانتقال الديموقراطي في جنوب أفريقيا. ويشير الباحث كاوترا إلى أن هذه التجربة هي واحدة من أقدم وأنجح التجارب على صعيد الانتقال الديموقراطي وإصلاح القطاع الأمني، ومنها استقت بعض الدول الغربية نظرياتها حول عملية إصلاح القطاع الأمني. وأهم ما جاء في الورقة؛ أن عملية الانتقال إلى الديموقراطية شقّت جذورها في تاريخ ذلك البلد الممتد على نحو 300 عام من الاستعمار ونحو 50 عاماً من الهيمنة العنصرية الرسمية في ظل نظام الفصل العنصري (الأبارتيد). وقد كانت عملية الانتقال إلى الديموقراطية في جنوب أفريقيا بمثابة انتصار سياسي لا عسكري لحراك تحرري مسلح مثَّله المؤتمر الوطني الأفريقي، لكن هذا الانتصار تم من خلال مسار طويل من المفاوضات والتسويات التي أديرت في معظمها من قِبل أطراف داخلية.
وأوضح كاوثرا أنه لا يمكن وصف ما حدث في جنوب أفريقيا على أنه ثورة، رغم اندلاع حرب أهلية محدودة، حيث سقط نحو 15 ألف شخص خلال العنف الذي شهدته فترة المفاوضات، إلا أن الانتقال تم في سياق استمرارية دستورية. ويمكن النظر إلى أواخر القرن الـ20 ومطلع القرن الـ21 على أنها حقبة انتقالات:
ـ من الحرب إلى السلام (نهاية الحروب الأهلية والصراعات الإقليمية التي شكلت حروباً بالوكالة ارتباطاً بتناحر القوى العظمى في الحرب الباردة).
ـ من الاقتصاديات المركزية أو المدارة من جانب القيادات إلى اقتصاديات السوق.
ـ والأهم، من الأنظمة السلطوية أو أنظمة الحزب الواحد إلى إدارات ديموقراطية تعّددية في ظاهرها. شهدت بعض البلدان نوعاً واحداً فقط من هذه الانتقالات، بينما شهد البعض الآخر الأنواع الثالثة مجتمعة. وقد سارت قلة فقط من هذه الانتقالات على نحو منتظم، فقد تعرض بعضها للعرقلة بينما انقلب بعضها الآخر ليسير في الاتجاه المعاكس. ونادراً ما جرى الانتقال على أتم وجه لتنجم عنه في هذه الحالة أنظمة شبه ديموقراطية. وبما أن هذه الانتقالات استتبعت حتما إعادة تشكيل للسلطة، فإنها اقترنت بنشوب صراعات. ورغم أن هذه الصراعات لم تكن بالضرورة عنيفة دوماً، فإن الكثير منها تضمن درجة معينة من العنف. وثمة أدلة حية تدعم نظرية "السلام الديموقراطي" التي ضمنت عدم اقتتال الديموقراطيات فيما بينها. لكن هناك أدلة توازيها بالأهمية حول الارتباط الوثيق بين أي عملية انتقال نحو الديموقراطية وبين نشوب الصراعات وأعمال العنف، رغم أن هذه النظرية ليست ناضجة بعد.
وأكد كاوثرا على أن التعميم لا يدوم؛ حيث انطوت كل عملية انتقالية (سواء التي حدثت في أوروبا الشرقية أو الوسطى أو في آسيا الوسطى أو في أفريقيا أو حديثاً في العالم العربي) على مميزات وتحديات فريدة خاصة بها. كما ترتب على كل منها مستويات مختلفة من التدخل الخارجي. من الصعب القياس على تجربة جنوب أفريقيا، وبالتالي استخلاص العبر في إصلاح الجانب الأمني من أجل تطبيقها على بلدان أخرى تشهد عمليات انتقالية. لكن تجربة جنوب أفريقيا كانت واحدة من أقدم وربما أنجح محاولات ما يعرف بإصلاح القطاع الأمني في سياق الانتقالات الديموقراطية. وكانت العملية تدعى آنذاك بـ"التحول الأمني" عوضاً عن "الإصلاح الأمني". وكان مفهوم القطاع الأمني أو النظام الأمني الأوحد لا يزال في مراحله الأولى. ورغم ذلك، فإن بعضاً من النظريات الغربية المتداولة حول إصلاح القطاع الأمني مستقى من تجربة جنوب أفريقيا. إلا أن هذا الأمر لا يُعترف به غالباً. وبالتالي فإن الورقة تقوم بالنظر في المنهج الأوسع الذي تم تبنيه في جنوب أفريقيا من أجل إصلاح القطاع الأمني، ومن ثم النظر في بعض التحديات التي برزت في قطاعات تابعة أخرى، وأهمها قطاعات الدفاع والشرطة والاستخبارات.
كذلك استعرض الكاتب بداية عملية الإصلاح، من خلال القرار الذي اتخذه الجنوب أفريقيون بقيادة العملية الانتقالية بأنفسهم، في ظل الانشغال الدولي بقضايا وملفات أخرى، وعدم رغبة الطرفين بالتدخل الخارجي. ونوه إلى الصعوبات التي واجهتها هذه المرحلة في ظل وجود "طرف ثالث" لم يكن يرغب بسلمية هذا الانتقال.
وتوقَّف كاوثرا عند الدور الذي لعبه نيلسون مانديلا وحزب المؤتمر الوطني في العملية الانتقالية، وصولاً إلى اتفاق السلام الوطني في عام 1991، ومن ثم قدرة البلاد على إجراء الانتخابات عام 1994 التي أثمرت عن قيام حكومة وحدة وطنية.
وتشرح الورقة الصعوبات التي اعترضت هذه المرحلة والتي استمر بعضها حتى هذا اليوم. منها أجهزة الاستخبارات، المؤسسة الأكثر صعوبة من حيث إمكانية ولوجها وتطبيق الحوكمة وإخضاع كوادرها للمحاسبة. وذلك لأسباب تتعلق في معظمها بالتزام هذه المؤسسة السرية في العمل. كما أنها أكثر زوايا الأمن عرضة لسوء الاستخدام السياسي.