العمل التنفيذي له أثقاله ومتاعبه التي تمتص أي صورة ذهنية مضخمة يضعها العامة للمسؤول، فليس الأمر وجاهة اجتماعية بالمعنى الحرفي وإنما ضريبة ثقيلة لا يشعر بها إلا المسؤول سواء نجح في تنفيذ واجباته ومهماته أو أخفق، لأنه يظل في جميع الأحوال محل نظر المجتمع والدولة، وكأنه يسير على الجمر باعتبار أنه مستهدف بالنقد، إيجابا أو سلبا، وهي حالة لا يمكن التخارج منها بسهولة إلا في حال تحقيق منجزات تشعر المسؤول بالرضا عما استطاع تقديمه لمجتمعه ووطنه.

توقفت في التغيير الوزاري الأخير عند إعفاء وزير التعليم العالي السابق ‏الدكتور خالد بن محمد بن عبدالعزيز العنقري، ووجدته يماثل استراحة محارب، فالرجل ظل يخدم وطنه منذ عقود طويلة، وكانت آخر محطاته الوزارة المعنية بمخرجات المستقبل والمساهمة في صناعته، وذلك في الواقع بالنسبة له حصاد أكثر من ربع قرن من العمل الوزاري المضني والشاق، نستثني منها عامين في الشؤون البلدية والقروية، وبقيتها 24 عاما في التعليم العالي يمكن رصد منجزات الوزارة في ارتفاع أعداد الجامعات والكليات والمعاهد والخريجين وبرنامج الابتعاث.

لست بالضرورة أمدح الدكتور العنقري، وإنما هي مآثر ومنجزات تبقى في الذاكرة الوطنية والمجتمعية، تحفظ وتستعيد ما قدمه طوال أعوام وزارته، وذلك وإن كان يحسب للدولة إلا أن الجهد التنفيذي في المتابعة وتحقق المنجزات على أرض الواقع كان يتطلب تناغما مع طموح القيادة والمواطنين، نجح فيه العنقري بامتياز مع مرتبة الشرف التنفيذي الذي يجعله يستحق وسام الجدارة، فهو نجح في أن يجعل الوزارة مؤثرة في الحراك العلمي والتعليمي وحفز الجامعات لأن تنمو بقدراتها ومخرجاتها، فأصبحت تزاحم أعرق الجامعات العالمية فيما تنجزه من بحوث وتطوير قدرات الطلاب.

ولأني مثل كثيرين غيري شديدو الإعجاب بتجربة الابتعاث الخارجي، فإننا لا بد وأن نشيد بما أنجزه في هذا الإطار، فبرنامج الابتعاث الذي وضعته الدولة بين يدي التعليم العالي لم يكن ليحقق كل تلك الإنجازات دون قيادة تنفيذية تمتلك الرؤية والفكر الإداري والإشرافي الذي يتعامل مع البرنامج كقضية استراتيجية تتبع أدق التفاصيل لتمنح الوطن مخرجات متميزة وقادرة على صناعة المستقبل، ولذلك من المهم الإشارة إلى أن العنقري قاد البرنامج إلى شاطئ الأمان بدليل كل هؤلاء الخريجين سنويا، وتفرد المتفوقين منهم بمنجزات علمية وضعتهم ضمن نخبة علماء العالم، ولو لم يتحقق ذلك لأخفق العنقري والوزارة ولم يصلا بالبرنامج إلى مستوى الطموح والخطط الموضوعة له.

الدكتور العنقري من القلائل الذين لم تصبهم سهام النقد وهو يحمل أمانة تكليف عام، لأنه وصل بالفعل إلى مستوى متقدم من النجاح يمنحه الطاقة المانعة لذلك، وليس في الأمر كمال وإنما اكتمال يناسب الجهد والعزم والإرادة، ولأنه من لا يشكر الناس لا يشكر الله فمن أوجب واجباتنا أن نتوجه له بالشكر الجزيل على ما قدمه طوال تلك الأعوام الطويلة التي وضعتنا في مسار علمي وتعليمي متفوق تحقق من خلاله الكثير الذي يلبّي تطلعاتنا إلى تعليم عال يستوعب أكبر عدد من الراغبين في مواصلة تعليمهم الجامعي ودراساتهم العليا في مختلف المجالات، فيمنحون الوطن خيارات متعددة ومتطورة على نحو ما نحصل عليه حاليا ويتوقع أن يكون له انعكاسه أكثر في المستقبل.

مسيرة الدكتور العنقري في وزارة التعليم العالي تعتبر تجربة تنفيذية وطنية ذات طابع خاص ونحن نتجه إلى المستقبل، لأنه عمل في موقع شديد الحساسية فيما يتعلق ببناء القدرات وتطوير الإنسان ومنحه حقه العلمي وفرصته في اكتشاف قدراته المبدعة في العلوم الإنسانية المختلفة، ولذلك أصبح شريكا مؤثرا وفاعلا في مسيرة البناء الوطني، ليصبح بذلك نموذجا للفعالية التنفيذية التي نطمح إليها ونطلبها من غيره من التنفيذيين بحيث يعملون بتناغم مع طموحاتنا وأهدافنا للتطور، وحسب العنقري ما أنجزه وحققه، ويبقى الأمل في سلفه وغيره من التنفيذيين الناجحين، الذين نأمل أن يعملوا بصمت أكثر لأن ذلك ينجز أكثر، وكلما تراجع مستوى النقد كان ذلك دالة النجاح.