"علينا أن نرى كيف يمضي الأمر"، هذا ما قاله قائد قيادة أفريقيا في الجيش الأميركي، الجنرال ديفيد رودريجيز يوم الأربعاء الماضي في إعلان للبنتاجون أن الجيش الأميركي يراقب عن كثب نشاطا حديثا لتنظيم "داعش" لتدريب 200 مقاتل في شرق ليبيا. وجاء في سياق حديثه مع الصحفيين في وزارة الدفاع الأميركية: "نتابعه (الأمر) بدقة بالغة لنرى كيف يتطور. إنه في الوقت الراهن مجرد أمر صغير وحديث للغاية، وعلينا أن نرى كيف يمضي".
بمثل هذا التصريح يتضح أن الغرب متمثلا في الولايات المتحدة يتعامل مع الإرهاب وظواهره في المنطقة العربية بمبدأ الكيل بمكيالين، فهي تسعى وتحرص على أن تجمع مختلف المبادرات من دول المنطقة لتوجيه ضربات لـ"داعش" الذي استفحل تمدده وسيطرته على مناطق كثيرة في العراق وسورية، وتشارك هي الأخرى بطلعات جوية لا نعلم عن مدى جدواها في الواقع. في حين أن "داعش" بات يمد له ذراعا أخرى في ليبيا منذ وقت مبكر، ولكنها تعتبر أن أمر هذا النشاط غير مهم في الوقت الحالي بل تقول إنهم يقومون فقط بالمراقبة لأن العدد - قرابة الـ200 شخص - لا يشكل خطرا من وجهة نظرهم.
سبق في سبتمبر الماضي أن اتهم مندوب ليبيا لدى الأمم المتحدة "إبراهيم الدباشي"، المجتمع الدولي بالتباطؤ في تقديم الدعم لليبيا، وأوضح أن "لا أمل في استقرار ليبيا ما لم تنسحب المجموعات المسلحة من العاصمة طرابلس، وتعود مؤسسات الدولة للعمل في مقارها من دون تهديد، واحتكار السلطات الشرعية للقوة المسلحة، ونزع سلاح كل الميليشيات من دون استثناء".
عمت الفوضى ليبيا منذ بدايات ثورة 17 فبراير، حلم الليبيون أن تؤتي الثورة على النظام السابق ثمارها المنشودة من دولة ديموقراطية وحكومة منتخبة، لكنها تحولت إلى حرب عصابات وميليشيات مسلحة تعطل الحياة الطبيعية وتنشر الدماء والدمار في كل ناحية، بدأتها الميليشيات السلفية المسلحة التي انفصلت عن الثوار، والتي ليست سوى أذرع لجماعة الإخوان المسلمين و"القاعدة" التي تُدعم بدورها من أنظمة خارجية أخرى، وحوّلوا الصراع من سعي لتحقيق دولة مدنية إلى صراع بين أهل الله وأهل الشيطان كما تصنفهم هذه الجماعات المسلحة. أدى نفوذ هذه الميليشيات الإسلاموية إلى تحويل الهدف الذي قامت عليه الثورة إلى صراع على السلطة هدفه السيطرة على ثروات ليبيا سواء من الجماعات المسلحة الداخلية أو من الأنظمة الخارجية الداعمة لهذا الانفلات لأجل مصالحها.
في السادس من أكتوبر الماضي قامت إحدى هذه الجماعات الإسلامية وهي تنظيم "أنصار الشريعة" بمبايعة تنظيم داعش الإرهابي وأعلنت "درنة" إمارة إسلامية، ودعت إلى تجمع جماهيري في "ساحة الصحابة" لاستعراض الأسلحة وإبلاغ السُكان بهذه المبايعة ومتطلباتها. من ذلك الحين - وربما قبله - أصبح لـ"الدواعش" قدم ثابتة في ليبيا وعبء آخر على أديمها مع بقية الميليشيات التي لا تهتم للمصلحة الوطنية العامة ولا بمصالح الشعب.
ما يقوم به الغرب وممثلته الولايات المتحدة من غض للطرف عما تقوم به تلك الميليشيات في ليبيا من فوضى مسلحة، ومن امتداد لـ"داعش" في الشمال الأفريقي عبر ليبيا بالرغم من تدخلها في بلدان أخرى، يثير تساؤلات شتى وعلى رأسها السؤال عن المستفيد مما يحدث في هذا البلد، وعن تجارة الأسلحة التي لقيت رواجًا كبيرًا هناك والتي نُشطت على يد الإخوان إبّان عهد الرئيس المخلوع محمد مرسي، فأصبحت الحدود بين مصر وشرق ليبيا بوابة لهذه التجارة غير المشروعة التي تستفيد من مناطق الصراع في العالم لتنميتها؟
الوضع الذي تعيشه ليبيا اليوم يؤثر بالمقام الأول على الشعب الذي تبددت أحلامه في قيام دولة مدنية، والذي يعيش أوضاعاً غير مستقرة ودامية ويخسر الكثير من شبابه لأجل صراعات منفعية في رداء لاهوتي يصدقه البسطاء ويشاركون فيه. كما أن له تأثيرا خطيرا أيضاً على دول الجوار بشكل خاص، والذي يؤدي عدم قدرة الحكومة السيطرة على الانفلات الأمني في الدولة إلى أن تصبح الحدود ممرًا لتهريب الأسلحة وتسلل الإرهابيين من مختلف دول العالم من وإلى ليبيا.
المعسكرات المستحدثة لـ"داعش" في ليبيا لتدريب الأفراد سوف تُصدر المزيد من الأفراد الانتحاريين الذين يؤمنون بقانون الدم وشريعة الغاب، وسوف يذوق وباله كل الدول العربية ما لم تتحرك بحزم للتصدي لمثل هذا التنظيم. وكما أن توجيه الضربات العسكرية لـ"داعش" في العراق وسورية من قبل التحالف الدولي قد يسهم في إضعاف هذا التنظيم، لكن ينبغي على الدول العربية أن تتنبه إلى أن خطر "داعش" لا يُقاس بحسب أعدادهم وقدراتهم المعلنة، بل الخطر الأكبر في توجههم الفكري وأدلجتهم المسيطرة والمستمرة على عقول الكثير حد اليقين في داخل أوطاننا. فمقاييس "البنتاجون" التي ترى أن معسكر التدريب لـ"داعش" الموجود الآن في ليبيا لا يشكل خطرا لمحدودية عددهم، مقياس خاطئ لا يخرج عن النظرة البراجماتية للدول الغربية تجاه الدول العربية.
الجولة الجديدة من حوار "غدامس" المقرر عقده اليوم برعاية أممية فرصة جديدة أمام الفرقاء الليبيين للنظر في مصالح دولتهم التي تقف على أعتاب حرب أهلية، ومحاولة للشرفاء من أبناء ليبيا المخلصين أن يجتهدوا في تشكيل حكومة وحدة وطنية تغلب المصالح العامة وتقف بحزم أمام الميليشيات المسلحة وتنزع سلاحها، حتى تتمكن من وضع استفتاء ومسودة للدستور المزمع تقديمه في ديسمبر المقبل تمهيدا للانتخابات البرلمانية والرئاسية.