اعتاد المواطن السعودي منذ سنوات قراءة أخبار حوادث تحصد أرواح بناتنا المعلمات اللاتي يعملن في مناطق نائية، معلمات خططن لحياتهن يوما بعد يوم، فهن على علم بأن حياتهن على المحك، ومع ذلك يتمسكن بعملهن لعل الحظ يحالفهن فينجون من طرق يحفها الموت من كل جانب، ولعلهن يحظين بنقل يقربهن من أطفالهن وأسرهن، الحوادث المغلفة بالسواد أصبحت بيننا في حكم الظاهرة منذ سنوات.. الظاهرة التي تبكينا وتكسر قلوبنا على زهرة شبابنا التي فقدنا ونفقد بسبب سوء التخطيط.. أو بسبب افتقادنا لقرار إداري ملزم لجميع الأطراف المعنية، قرار يضع نصب عينيه أن معلماتنا هن من موارد البلاد البشرية ومن الكفاءة الوطنية التي يصعب تعويضها.
ومن هنا؛ ألتمس من وزير التربية والتعليم الأمير خالد الفيصل، الرجل الذي أعتقد أنه قادر ـ بإذن الله ـ على حل هذه المعضلة، بل ونزعها من جذورها، ولعله يصدر قرارا يشمل المناطق كافة، يلزم من خلاله المعلمات كافة بالسكن قريبا من مقر عملهن بمسافة محددة مسبقا من قبل الوزارة.. وإن تعذر تنفيذ ذلك فلتعد الوزارة إلى التعاقد مع الوافدات من الدول العربية، فعندها سنضمن ـ على الأقل ـ قرب سكنهن من محل عملهن، وحفظ أرواح بناتنا وأمهات أطفالنا.
بمعنى آخر، أن تبقى بناتنا المؤهلات لمهنة التعليم دون عمل أفضل من أن نفقدهن بلمح البصر، أفضل من أن تبكيهن أسرهن ونبكيهن معها.. وعلى فرض أن المعلمة حريصة هي وأسرتها على العمل في المناطق النائية أو البعيدة رغبة في الحصول على "بدل المناطق النائية " فعلى كل واحدة منهن إقناع أهلها بالانتقال إلى السكن قريبا من المدرسة التي تعمل فيها. وقد يكون من الجيد زيادة مخصصات الواحدة منهن في مقابل زيادة نصابها التدريسي، فهكذا نخفف احتياجنا للمدرسات في المناطق النائية ونحفظ أرواح بناتنا.
أو بالإمكان توفير سكن للمدرسات في تلك المناطق، تؤجر للمدرسات الراغبات بأسعار رمزية، وتخضع لنظام معين بحيث تشرف على حراسته وصيانته وزارة التربية والتعليم.
وهناك حالات إنسانية مرتبطة بتلك الحوادث تحتاج منا الاهتمام والرعاية، وهي المتعلقة بطالبات المدرسات المتوفيات.. هل توقفنا عندهن؟! هل نظرنا إلى حالتهن عندما وصل إلى علمهن أن مدرستهن فارقت الحياة وهي متوجهة إليهن أو مفارقة لهن؟! هؤلاء بحاجة ماسة إلى اهتمام نفسي ومن المتخصصين، فإذا كانت وفاتها تؤثر علينا كمواطنين ومواطنات، ونحن لم نتعامل معها بشكل مباشر، إذا كانت وفاتها تؤثر على زميلاتها وإدارة المدرسة التي تعمل فيها، فكيف بطالباتها؟! فهل عمدت إدارة تلك المدرسة إلى رصد أحوال الطالبات النفسية إثر وفاة معلمة كانت بينهن قبل ساعات؟ هل تأكدت من كيفية تقبلهن للخبر؟ وهل اتصلت بأسرهن واتفقن معا على الكيفية المناسبة لمعالجة الأمر؟ وهل أصابت إحداهن انتكاسة نفسية؟ ثم هل كان استبدالها بغيرها بشكل تدريجي؟ ويجب أن تخصص الحصة الأولى بعد وفاتها للحديث عن مناقبها والدعاء لها، وترك المجال للطالبات للبوح بما في صدروهن من شجن، خاصة لمن كن في المرحلة الابتدائية والمتوسطة.
طبيعي هناك من سيؤكد أن وفاتها أمر محتوم ومقدر من الله سبحانه وتعالى، وأنه كان عليها أن تموت في هذه الساعة وبهذه الحالة، وأذكر هؤلاء بأن الله سبحانه أمرنا ألا نلقي بأيدينا إلى التهلكة، وإقبالها على هذا العمل يعد من وجهة نظري انتحارا لا تبرره حاجتها للوظيفة، فقد قال سبحانه (ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة)، والنهي هنا واضح لا يحتمل التأويل.. فكيف بمن تركب سيارة قبل صلاة الفجر لتعود في نهاية النهار، وفي رحلتها ذهابا وإيابا تكون جاهلة بحالة السائق، هل نام جيدا أم لا، هل هناك ما يشغل فكره ويقلل من تركيزه إلى ما دون المستوى المطلوب؟ ثم هل الجهات المعنية بالاهتمام بتمهيد الطرق والعمل على تزويدها بمحطات إسعافية تكون مجهزة للتعامل مع الحوادث.
آمل من وزارة التربية التعليم البدء في رصد إحصائي لكافة المدرسات يظهر عنوان سكنهن ومكان عملهن، مع الأخذ بعين الاعتبار أن هناك من ترغب في العمل بعيدا عن سكنها لتنال "بدل المناطق النائية"، وهي تمني نفسها بالبقاء في عملها سنوات تتمكن خلالها من توفير قدر من المال تعود بعدها إلى مدينتها.. وبالتالي سنجدها لا تمانع من مغادرة بيتها قبل صلاة الفجر لتعود إليه قبيل صلاة المغرب.. وهي بطبيعة الحال لن تكون مبدعة في عملها بالقدر الذي يمكن أن تقدمه لو كان مقر سكنها قريبا من عملها ولو بشكل نسبي.
كما أتمنى أن تتعاون وزارة التعليم في سبيل إعداد هذه الإحصائية مع جهة لا علاقة لها بوزارة التعليم والخدمة المدنية، ولتكن جهة محايدة توافق على شروط صارمة يضعها الوزير، لنضم رصد المعلومات دون إضافة أو حذف، على أن توضع نتائج هذا الرصد الإحصائي بين يدي سموه ليقرر من يتوجب عليها الانتقال إلى مكان قريب من عملها.
أما من ترفض الانتقال إلى سكن قريب من مقر عملها لأسباب وجيهة أو واهية، فالحل هنا إنهاء خدماتها دون أدنى تردد، فأن تفقد عملها أفضل من احتمال أن نفقدها، وأخيرا؛ ألم يئن الأوان لإنهاء هذا المسلسل الدامي، حفظ الله أبناءنا وبناتنا، ورحم من فارقنا منهم ومنهن وألهمنا وأهلهم وأهلنا الصبر والسلوان.