الإنسان في الظروف الطبيعية كائن انتقائي. ينتقي الثوب الذي يناسبه إن لم يكن محتاجا، فإن كان محتاجاً ستر نفسه بأي قطعة. ينتقي الطعام الذي يناسبه إن لم يكن جائعا، فإن كان جائعاً مضغ ما تيسر. هذه القاعد تنطبق على احتياجات الإنسان المادية، إلا أنه من المفترض ألا يتم تطبيقها على القيم الأخلاقية كالـ"الأمانة، الصدق، الرحمة، الإخلاص، العدل.. إلخ"، المفترض ألا تكون لهذه القيم تدرجات لونية ومقاسات مختلفة حتى يتسنى للإنسان أن ينتقي منها ما يناسب مصالحه.
نعم، للإنسان كامل الحق في أن يختار الحذاء الذي يناسب قدميه، إلا أن القيم ليست حذاءً حتى يمارس عليها عملية الاختيار والرفض، عندما يُسأل الإنسان: ما عيبك؟ فيجيب: عيبي أني طيب. فهذا ربما لا يكذب لكنه يختار من الصدق فقط ما يُحقِق له منفعة، ولو أنه قال كذباً: أنا بلا عيوب، لكان أفضل له من أن يقول صادقاً: عيبي أني طيب، لأن الانتقاء الأخلاقي بهذا المعنى أسوأ من الفعل اللاأخلاقي.
عموماً، يبدو أن في بني يعرب من يرفع شعارات أكبر من حجمه، يؤمنون بأن القيم مطلقة، لكنهم لا يطبقون هذا المبدأ على أرض الواقع، ويبدو أن الذين يؤمنون بنسبية الأخلاق، أهل المذهب النفعي، هم أيضاً لا يطبقون مبدأ النسبية على أرض الواقع، وربما بسبب هذا التعارض بين المعتقد والتطبيق قال الإمام محمد عبده: في بلاد الإسلام رأيت مسلمين ولم أر إسلاما، وفي بلاد الغرب رأيت إسلاما ولم أر مسلمين.
وإن المتأمل في سبب هذا التعارض بين المعتقد والتطبيق، سيجد أن أهل النسبية الأخلاقية يستثنون العدل من معادلة النسبية، فالعدل عندهم لا يجوز المساس به ولا يحق لأحد أن يقوم بتفصيله بحسب المقاس، بينما القائلون بأن القيم الأخلاقية مطلقة يستثنون العدل من معادلة الإطلاق، فالعدل عندهم كالخرقة البالية متدرج متلون لا بحسب المصلحة فقط إنما بحسب المنصب والمزاج أحياناً.
وأن يتم استثناء العدل من أي معادلة فلن تكون هنالك معادلة من الأساس، أن يكون العدل مطلقا في مجتمع يؤمن بنسبية القيم فلن تتحقق النسبية على أرض الواقع، أن يكون العدل نسبيا في مجتمع يؤمن بأن القيم مطلقة فلن تكون لصفة الإطلاق أي فاعلية على أرض الواقع.
العدل النسبي مجرد عبارة لوصف ألوان غير معلومة للوحة موجودة في مكان غير معلوم، عبارة لوصف عدل غير معلوم الملامح متحقق بطريقة غير معلومة، أو بمعنى آخر هي عبارة تقال للتخفيف من حدة عبارة: "الظلم المقنن"، والظلم المقنن هو باختصار أن يظلم الإنسان كما يشاء شريطة أن تكون أوراقه قانونية بالكامل، وأن تكون أوراق الإنسان قانونية أكثر من اللازم، أن يكون أبيض أكثر من اللازم، أن يكون نظيفا أكثر من اللازم، كل هذه المبالغة في الحرص تولد الريبة والشك في نفس من لا يؤمن بأن العدل نسبي.
عندما لا ينتبه القضاء ولا ينتبه المحامون إلى كل هذه النظافة المبالغ فيها فلا بد من إعادة النظر في كل منظومة العدل، لا بد من إعادة النظر في مواد القانون، لأن الإنسان الطبيعي يتسخ أحياناً، يغفل أحياناً، يسهو أحياناً، الإنسان الطبيعي لا يبالغ في الحرص إلى هذا الحد، ولا يبالغ في الحرص إلا من كان لديه شيء ما يريد إخفاءه، هنا لا بد أن لا يكون القانون هو أداة الإخفاء، هنا لا بد وأن يكون القضاء أسمى من القانون، وإلا سيتعلم الجميع فن الإخفاء بالقانون، سيتعلم الجميع كيف يكونون نظيفين أكثر من اللازم.
وأختم بقصة ذلك الذي استلم رئاسة إحدى الشركات، فكان القرار الأول الذي اتخذه بينه وبين نفسه أن يكون حريصاً جداً، فأخذ يقرأ لوائح الشركة وأنظمتها إلى أن حفظها عن ظهر غيب، ثم أخذ يتعلم فن المشي في الظل بعيداً عن كاميرات المراقبة والابتسام عندما يُضاء المكان، وفعلاً سار على هذا النهج، حريص جداً، نظيف جداً، أوراقه قانونية جداً، إلا أن الموظفين مع الوقت بدؤوا بالتثاؤب والنوم في مقر العمل، ونومهم كان الخطوة الأخيرة التي سقطت بعدها الشركة وأعلنت إفلاسها.
جاء المحققون وبدؤوا التحقيق فوجدوا أوراق رئيس الشركة قانونية تماماً، بالإضافة إلى أنه لم يتأخر يوماً، ولم يغب ولم يغف للحظة، ثم وجدوا الموظفين نائمين على مكاتبهم، فتم – قانونياً - توجيه أصابع الاتهام للموظفين، والموظفون بدورهم أشاروا بأصابع الاتهام إلى رئيس الشركة لكن بلا دليل قانوني.
أحيلت القضية للقضاء، تشاور القُضاة، العدل هنا سينتهي إلى ماذا؟ جواب هذا السؤال يُحدِده نوع العدل، إن لم يكن نسبيا سيتم عقاب الموظفين بسبب النوم وعقاب الرئيس بسبب اليقظة المبالغ فيها! أما إن كان نسبيا فسيتم عقاب الموظفين وتبرئة الرئيس ثم سيتم ختم ملف القضية بعبارة: "آسفين يا ريس"، وقد يطالب بتعويض مادي جراء هذا الضرر، وطلبه مشروعا في ظل عدل نسبي.