في داخل كل واحد منا "دعشوشي صغير"، يخرج للحظات ثم يختفي مرة أخرى خلف قناع الأخلاق والقيم المزيفة، فهو يتحين الفرص والأحداث المناسبة ليفصح عن ذاته المثقلة بألوان الكراهية.
قبل أيام ودعت "بلدوزر" الفن الشرقي "الشحرورة" صباح الحياة عن عمر مديد، وما إن نُشر الخبر في سماء العالم الافتراضي حتى انهالت التعليقات التويترية التي تستعجل الحساب والحسم الأخروي، حيث تسأل سؤالها المعهود: هل تجوز الرحمة على "الشحرورة"؟ هل هي كافرة أم مؤمنة؟ سؤال كارثي يمكن رسم ملامحه "كاريكاتوريا" للذات وللآخر، ومما يذكر أن ذات الحملة واجهت أيقونة النضال والتسامح "مانديلا"، هذه الشخصية الاستثنائية الملهمة المسكونة بوجع الإنسانية والمعجونة بالروح الغاندية التي وحدت العالم، أصبحت محاصرة بخطاب استئصالي يقتل في رمزيته كل حس وحدوي وإنساني. نعم، هو سؤال ملغوم يحاولون من خلاله تصوير الصراع بين الإسلام والأديان السماوية. سأقدم لكم مثالا للسؤال الملغوم: هل يجوز الترحم على ضحايا انفجار بوسطن؟ يجيب المتطرف الوسطي بسؤال أكثر تلغيما: آلاف المسلمين يقتلون من الانفجارات في العراق وسورية، وأفغانستان ومصر والصومال، لماذا نترحم ونتعاطف مع انفجار قتل فيه ثلاثة في بوسطن؟! حقيقة، لا أعلم هنا كيف يمكن لمن يتعاطف مع الضحايا في سورية والعراق أن يقابل خبر التفجير في بوسطن بالفرح والتهليل والتكبير، إلا إذا كان هذا الإنسان يعاني من خلل أخلاقي أو أن "دعشوشيا صغيرا" يعشعش في داخله؟
إن سؤال الرحمة يكشف في واقعه عن عقلية ما زالت منحسرة في معاقل الهويات المغلقة والمتخشبة وهي لم تأت من فراغ، فالخطاب الديني يصور البراءة من الكفار في ثلاثة أوجه:
1- بغضهم 2- الهجرة من ديارهم 3- بيان ما هم عليه من الباطل. إنني أتساءل: كيف لا تجوز مودتهم، أو الترحم على موتاهم، وقد أباح لنا الإسلام الزواج منهم؟ فتكون المرأة الكتابية، زوجتي، وأم أولادي، فكيف لا أودها وأترحم عليها إذا ماتت؟ أليس ديننا دين محبة ورحمة وسلام، فلماذا نحوله إلى دين كره لكل ما هو مختلف عنا؟!
نعم، أمرنا القرآن بعدم موالاتهم لكنها خاصة فقط بالمعتدين ففي تفسير ابن كثير يذكر: (أما قوله تعالى: "ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى"، أي: الذين زعموا أنهم نصارى من أتباع المسيح وعلى منهاج إنجيله، فيهم مودة للإسلام وأهله في الجملة، وما ذاك إلا لما في قلوبهم، إذ كانوا على دين المسيح من الرقة والرأفة"، وقوله تعالى: "(ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون)، يذكر الرازي: "وبحسب هذا القول يكون الغرض من الآية بيان أن أهل الكتاب ليسوا على وزن واحد، فمنهم مؤمن بالله مؤد ما عليه من واجبات، ومنهم كافر به، جاحد لنعمه وأفضاله"، ونحن نقول إن الرسول الكريم هو الرحمة المهداة من الله ليس للمسلمين فقط بل للعالمين "وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين". كان رسول الرحمة يتحمّل الإساءة والمهانة من الكافرين، ويقابل ذلك بالدعاء لهم "اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون"، ونحن نقرأ كيف أنه في يوم أحد جُرح وسالت الدماء على وجهه، لكنَّه رغم ذلك دعا لهم بالمغفرة والرحمة. والمنهج نفسه اعتمده رسولنا الأكرم عندما وفد إليه وفدٌ من نجران، ودخلوا عليه مسجده في المدينة، وعندما حانت صلاتهم قاموا في مسجد رسول الله يصلّون. فقال الرسول الكريم: "دعوهم، فصلوا إلى بيت المشرق". فإن كان خُلق الرسول يدعو إلى ترك المسيحيين يصلّون في مسجده فكيف بسدنة الرحمة يمنعونها؟ وهو القائل عليه الصلاة والسلام: "إنما بعثت رحمة للعالمين"، وخاطبه القرآن الكريم: (وإنك لعلى خلق عظيم). وسؤالي الأخير: لماذا أصبح من الصعب علينا أن نعيش إنسانيتنا في إنسانية الآخرين؟ ما الذي يضيرنا أن نترحم على الأبرياء كيفما كانوا؟ سيكون الجواب: عفوا لا يجوز الترحم عليهم حاليا، لا بد من معرفة دينهم ومذهبهم أولا!