قد لا أضيف شيئاً عندما أشير إلى أن وسائل الاتصال الحديثة قد أحدثت تغيراً هائلاً في منظومة الاتصال على مستوياته كافة، سواء على المستوى الفردي أو الجمعي أو حتى الجماهيري، وغني عن القول إن هذه التأثيرات تجاوزت عملية الاتصال نفسها لتؤثر بشكل حقيقي على شبكة العلاقات الاجتماعية لأفراد المجتمع نفسه.
ومن أهم التطبيقات التي شاع استخدامها خلال السنوات القليلة الماضية تطبيق "الواتس أب" WhatsApp، وهو برنامج تراسل فوري بين أجهزة الهواتف الذكية، يمكّن المستخدمين من تبادل إرسال واستقبال النصوص والصور والرسائل الصوتية مجاناً وبشكل فوري، والأجمل من ذلك أنه يتزامن بشكل تلقائي مع جهات الاتصال في الهاتف الذكي، لذلك لا يتطلب البرنامج إضافة الأسماء إليه، مما يجعله سهل الاستخدام للشرائح والأعمار كافة، بالطبع حقق التطبيق منذ إطلاقه عام 2009 نجاحات متتالية في أنحاء العالم كافة، حتى ناهز مجموع رسائله اليومية أكثر من 27 مليار رسالة!
هنا في المملكة انتشر استخدام "الواتس أب" بشكل متسارع، حتى لا تكاد تجد هاتفاً ذكياً دون أن يكون التطبيق موجوداً ومفعلاً، وبالطبع هذا الاستخدام المتعاظم أدى إلى أن يكون لـ"الواتس" تأثير أوسع على منظومة الاتصال الاجتماعي بالمملكة، الأمر الذي أثبته علمياً الزميل الإعلامي "عيسى المستنير" - الحاصل على الماجستير من جامعة موناش الأسترالية بمرتبة الشرف الأولى، ومؤسس ورئيس جمعية الإعلاميين السعوديين في أستراليا - الذي أكد في بحث علمي حديث على الآثار الإيجابية لتطبيق "الواتس أب" على العلاقات الاجتماعية في السعودية.
كنت التقيت الزميل "المستنير" الأسبوع الماضي في أبها على هامش فعاليات المؤتمر الدولي للإعلام والإشاعة، حيث قدم عرضاً متكاملاً لدراسته حول آثار "الواتس أب" على العلاقات الاجتماعية داخل الأسرة الصغيرة والأسرة الممتدة وبين الأقارب والأصدقاء وزملاء العمل، إذ استخدم طريقتين من طرق البحث للتوصل للنتائج وذلك بعمل استبيان إلكتروني على شبكة الإنترنت، شارك به قرابة 500 مشارك ومشاركة من عدد كبير من المدن السعودية! بالإضافة إلى مقابلات بحثية عميقة مع عددٍ من مستخدمي "الواتس".
وخرجت الدراسة بأن "الواتس" هو التطبيق الأول الذي يجمع أفراد العائلة الصغيرة والممتدة في بيئة افتراضية واحدة في الوقت الحاضر، وأن كثيراً من مستخدمي التطبيق وجدوا فيه البيئة الاجتماعية الإلكترونية المناسبة لتبادل أخبار العائلة والأقارب ومناقشة القضايا المهمة وحتى ترتيب الرحلات والمناسبات بين أفراد العائلة، وكذلك لتبادل الأخبار وأنواع المعلومات كافة، كالفقهية والاجتماعية والتربوية.
توصلت الدراسة كذلك إلى أن "الواتس أب" ساعد النساء بالذات وسكان المدن الكبيرة على تجاوز حاجز المكان، فأعطى المرأة السعودية فرصة التواصل مع أقاربها وقريباتها بشكل يومي، مما يقوي العلاقة ويزيل حاجز الكلفة بين الأقارب ويقوي من صلة الرحم، على حد تعبير الدراسة، والأهم من ذلك أن هذا التطبيق ساعد على تجاوز حاجز الزمن، فرسائله تعطي الوقت الكافي للحوار بين أفراد الأسرة الواحدة أو الأسرة الممتدة، مما أسهم بإعطاء الفرد وقتاً أطول للتفكير في الرد المناسب بدل الرد المتسرع حينما تكون المحادثة وجهاً لوجه!
ومن الجوانب التي كشفتها الدراسة أن "الواتس أب" سهّل عملية التواصل بين جيل الآباء والأمهات من جهة وبين جيل الشباب والشابات من جهة أخرى، فأضحى "الواتس" بيئة مناسبة لتعبير الشباب عن آرائهم الاجتماعية والأسرية والفكرية بحرية أكبر، الأمر الذي ساعد على خلق جوٍّ من التواصل الإيجابي بين أفراد الأسرة. لكن نتائج الدراسة من جهة أخرى أظهرت أن التواصل الكتابي والنصي من خلال "الواتس" وغيره من التطبيقات الاجتماعية أضعف من عملية التواصل المباشر وجهاً لوجه، ذلك أن النص يعتبر مادة جافة تفتقد لتعابير الوجه ونبرة الصوت وحركات الجسد، بيد أن مستخدمي "الواتس" استعاضوا عن تلك الإشارات بالوجوه التعبيرية والفيديوهات والرسائل الصوتية!
المثير في الأمر أنه رغم تزايد مخاوف الثغرات الأمنية في "الواتس" إلا أن سهولة وانتشار التطبيق ساعدا على مزيدٍ من الانتشار للتطبيق هنا بالمملكة وحول العالم، مما يجعلنا نؤكد على ضرورة إجراء مزيدٍ من الدراسات والأبحاث حول التطبيق وآثاره على المجتمع، كما هذه الدراسة الغنية التي تحوي الكثير من النتائج والأرقام التي لا يمكن اختزالها في مقال واحد، والحقيقة أنني لا أذيع سراً حينما أفشي أن الزميل "عيسى" سوف يصدرها في كتاب مستقل قريباً، ونحن أحوج ما نكون لمثل هذه اللبنات التي تسد ثغرة في طريقنا نحو التعرف على أنفسنا وعلى علاقاتنا الاجتماعية بشكل أكبر.