أعجبني ما كتبه الصديق العزيز الدكتور علي سعد الموسى، عن المجلس الجازاني في مقالته الثلاثاء الماضي، وهو الذي تطرق واقترح خلالها أن يكون المجلس الجازاني نموذجا عمليا تطبيقيا، بديلا لمشروع المناصحة! ووضعه كبديل يمكن الاعتماد على ذكائه، والمراهنة على قدرته في تغيير المعادلة الفكرية.

وهو من وجهة نظري طرح صحيح ممتع وجريء يحتاج إلى دراسة، لنستفيد من السيرة التاريخية لطبيعة وسر وقوة هذا النوع من المجالس.

ومع مرور الزمن لم تكن مجالسنا في جازان يوما انتقائية أو إقصائية أو منحازة لثقافة بعينها، سوى ثقافة التسامح والبساطة والعلم والثقافة والتنوع، وهي أهم نقاط قوته واستمراره دون تغيير كبير، سوى على مستوى الشكل ربما فقط، وهذا التشكيل العجيب للمجلس الجازاني لا يحاول مطلقا اختيار منظومته وترتيبها وفق نمط بذاته، وتكريس الفكر الأحادي أو ثقافة ما، بل يترك ذلك للصدفة الحرة بالكامل في معظم أوقاته لتقرير شكل وروح تلك المنظومة، ولا يسعى للتخطيط لمضمونها أو أفرادها أو شكلها دائما، وحين لا يشترط نوعا أو لونا ثقافيا أو توجها فكريا أو اقتصاديا بعينه، فإنما يثبت قدراته على تجاوز التحديات، ليقدم دروسا في الحياة وطريقة التعامل معها، وشتى فنون المعاملة، وأشكال التعايش الإنساني الخلاق، وتظـل نقطة التصالح الأسري مع المجلس باختلاف تركيبته في جازان "شبابا أو شيبانا" ـ وضع خطا تحت الكلمات التالية ـ أكثر النقاط أهمية المكونة لبيئة المجتمع المتصالح مع كـل شيء من حوله، ليتحول إلى بيـئة جـاذبة مسيطر عليها وعـلى أخلاقياتها، وليس بيئة طاردة منفلتة كبيئة "الاستراحات" البعيدة عن المنازل، التي تتشكل فيها شتى أنواع الممارسات اللا مسؤولة واللا أخلاقية في الغالب.

يقول زميلنا "الموسى" بعد أن طرح الكثير من الأسئلة والتساؤلات في القسم الأول من مقالته الرائعة تلك: "الجازاني بطبعه عاشق للحياة وزاهد أيضا في تعقيداتها الحداثية. الجازاني عاشق لتفاصيل يومه ولا يفكر كثيرا في مآلات الغد. مجالس جازان المسائية وحدها، وبالآلاف، تعكس طبيعة الانفتاح والتسامح وبغض وكراهية الطبقية. ستجد فيها أستاذ الجامعة مثلما تجد فيها حاصد الجوائز الوطنية وأيضا مثلما تجد فيها حارس البوابة وبائع الكادي وربطة المسواك. مجلس السمر الجازاني وحده أعظم "عيادة" لعلاج الأمراض الاجتماعية بالحوار والحديث بين كل الطبقات وسائر المهن. هو أعظم وسيلة "مناصحة" يتبارى فيها المثقف الضخم في حروب الأفكار مع الشاب البسيط المشحون بتغذية المدرسة والمنبر والمخيم والمحاضرة. طبيعة الفرد الجازاني مشحونة أيضا بحب القرية والطين و"السيل"، ولهذا تجده يهرب من حداثة بيته وأناقته إلى أديم الأرض التي تتميز بها مجالس السمو الجازانية الطويلة.

الجازاني باختصار: هو أستاذ الجامعة الذي عاش شقق لندن وصخب شيكاغو وبرجوازية إسكان جامعة الملك سعود، لكنه في قرارة دواخله يعرف أنها كلها مجرد رحلة موقتة قبل أن يعود إلى الطين والقرية وحديث البسطاء ومجالس التنوع الطبقي التي تشارك بها كل الأطياف والمدارس والشهادات. باختصار: الإنسان في جازان متصالح مع نفسه. يكره الإملاء والوصاية مثلما يكره التجييش والتبعية، ومثلما يبغض استيراد الأنموذج. باختصار شديد: المجلس الجازاني هو جواب أسئلة كل ما بأعلى المقال".

انتهى كلام زميلي الدكتور علي الموسى في مقالته، لكن المجلس الجازاني لم ولـن ينتهي عن تمثيل نفسه بمثل هذا البهاء، وسيظل إحـدى أهم المنارات والركائز التي تعطي المجتمع تماسكه الرائـع أسريا وفكريـا، وسيظل منبرا تعليميا عمليا لا يقبل التنظير، ففيه لا مكان للتصنيف أو العنصرية أو الفئوية البغيضة، وقد يتفاجأ البعض بأن المجلس الجازاني يشبه المتحف والمسرح والسينما ومنابر الدعوة ومنصات الأدب والثقافة إلى حد بعيد، ويحـاكي تلك المنابر المؤثرة بدرجة كبيرة، وهو مـا يفسر تصالح الإنسان في جـازان مع الطبيعة والدين والحياة والشارع عموما، ويكاد على هذا الجانب أن يكون ظاهرة مستمرة، لذا لا عجب في نجاحه وقدرته على التماهي مع المتغيرات، وقوة قدرته على إقناع كل الأطراف معا بقدر متساو تقريبا، وهذه الأخيرة من أعظم فضائله وأكثر ميزاته وضوحا وإشراقا، وأخشى ما أخشاه أن يتأثر هذا المجلس بالمتغيرات الاقتصادية والفكرية السريعة المتلاحقة، ويتخلى عن أهم أسرار قوته المتمثلة في تنوعه المستمر على الصعيد البنيوي الاجتماعي والفكري، فهذه المجالس الجازانية بطبيعتها هذه، إنما تمثل عمقنا التاريخي والروحي والإنساني، والمحافظة عليها تبدو واجبا أخلاقيا، قبل أن تكون عادة.