في قريتي وحتى عهد قريب كنا كل ذات "سبرة" موسم أمطار قوية وسيول نفرح بذلك الضيف المألوف والمنتظر بشغف. نستمتع ونعيش لذة ضيفنا. صغارنا يلعبون تحت زخاته مستمتعين متلذذين بكل قطرة منه، وكبارنا يتلون دعواتهم ويرسلون عبارات الشكر والحمد لمنزله مستقبلين السماء، والغيث يطهر أرواحهم، وينقي نفوسهم، فتحل السكينة، ويتواءم الجميع تحت سقف واحد، سرعان ما يسمع صوت "الغادي" من بين "سواريه"، فيسرع النساء بتوزيع "الصحاف" تحت ما فاض من السقف، والجميع يكرر الحمد والشكر لرب النعمة: "هذا ما طلبناه فلك الحمد والشكر".

ولأني عشت هذه الحياة المملوءة بالمتعة والبهجة عند نزول المطر، فقد اجتاحني كثير من الحزن والذهول وأنا أقرأ لزميلنا الدكتور عبدالعزيز القاسم في أحد مواقع التواصل الاجتماعي بعد نزول الأمطار الأخيرة على مدينة جدة قوله: "الحمد لله انقشعت الغيمة"!

وعندما ناقشناه حول هذا، ولماذا حمد الله على توقف المطر؟ ذكرنا بما حصل قبل أربع سنوات في مدينة الأحلام، تلك المدينة الغافية على البحر قبلة عشاق الساحل، وجارة الحرمين الشريفين. المدينة التي تحتضن مختلف الثقافات وشتى الجنسيات.

ذكرنا بالسيول القاتلة التي اجتاحت الأحلام والأماني قبل المباني والسيارات، وذكر لنا أنه أحد المنكوبين الذين خلد هذا الحدث الحزين ردة فعل حزينة في نفوسهم ونفوس أفراد أسرته، مما جعلهم يعيشون حالة من الرعب عند مرور سحابة من فوق سماء جدة! أإلى هذا الحد قلب الفساد موازين الأمور؟ وجعل الرحمة لحظات خوف؟ واقترابها شؤما؟ أهو ذو سطوة قاسية على لحظات الأطفال المستكينة وهم في فصولهم فيحولها إلى ساعات من الرعب وانتظار يد الموت تختطفهم بين لحظة وأخرى؟ من المسؤول عن الرعب الذي قذف في قلب صغيرة الدكتور عبدالعزيز والمئات غيرها من الأطفال الذين يرون أن تلك الغيوم غير المرغوب فيها أصبحت مصدر قلق لهم ولأمهاتم؟ حتى تنقشع ويعود الهدوء والسكينة مرة أخرى وتنتهي المعاناة بصمت مطبق يجتاح المسؤولين ومشاريعهم الحية، فلا تفكير ولا عمل لترويض البشر على أن هذه سحب الرحمة وانتشالهم من التفكير المفزع. كيف يتعايشون مع الغيم وزخات المطر؟ وكيف يتعلمون أن يشكروا الله ـ كما هي جزيرة العرب ـ على هذه النعمة، فلا يتذمرون من المطر، ولا يلوذون بالطوابق العلوية من منازلهم، فالأمر ليس سوى سيول متتابعة، وغيث يسقي دواخل المنازل، ويجر الفائض منها، فلا خوف من رحمة رب العالمين، وكلنا جبلنا على أن المطر حياة وليس موتا.