الواقع أننا نحن العرب مجرد رقم هامشي أو مجرد مستهلك لمعظم مقومات المدنية الحديثة، وهذا نتاج كوننا لم نسهم في إبداع وخلق أسس هذه المدنية، وعليه وجب دائماً وبداية أن نعود للمبدع الأول أو للصانع الأساس لنتعلم منه ونحتذي نهجه، ثم لاحقاً يمكننا أن نضيف إلى ذلك شيئا من هويتنا أو ذائقتنا أو خصوصيتنا.

أقول هذا الكلام توطئة للدخول في جدلية وجدارة الدعوة للسعودة التي تخرج رأسها كلما دار الحديث عن البطالة والعطالة بين شبابنا.

وأنا هنا لو قلت رأيي بوضوح فإنني كمن يفتح على نفسه عش الدبابير، لكنني رغم كل شيء سأقول بوضوح وصراحة لا أداهن فيها: إنني ضد هذه الشوفينية المستعرة، وإنني مع أحقية المواطن المقتدر بالوظيفة، لكن الاقتدار لا يتوفر للجميع إلا بالتدريب والمحاكاة وهذه لا يقدمها ولا يتقنها إلا أولئك السابقون في مدارج التنمية والمدنية، وهم في الأعم الأغلب من غير السعوديين بل ومن غير العرب، وهذا هو الذي يعزز عندي الحاجه إلى إيكال كثير من مشاريعنا التنموية إلى الإدارة الأجنبية التي أتقنت وأحسنت في بلادها بالقدر الذي يدفعنا للاستعانة بها في إدارة كثير من قطاعاتنا الخدمية، ثم يصار في هذه الأثناء إلى تدريب أبنائنا على رأس العمل من خلال وجود هذه الطاقات الإدارية الخبيرة.

لقد كانت مصر سباقة في تمدنها وتنميتها العصرية الحديثة، وكان انعكاس الخبرة الأجنبية أو -"الخواجة" كما يتعارفون عليه في مصر- واضحا وبارزا إلى ما قبل ثورة الضباط الأحرار على نحو جعلها دولة متقدمة ومزدهرة عمرانيا وتعليميا وثقافيا وصناعيا، وانعكس ذلك كله على المواطن المصري الذي عاش وفرا اقتصاديا ورفاها اجتماعيا ملحوظا، لكن ذلك كله انقلب بدرجة معكوسة مع خطوة التأميم والتمصير، التي أوقفت عجلة النمو في مصر وصارت وظيفة القطاع العام هدفا تأمينيا يسعى إليه كل المصريين بما انعكس سلبا على القطاع الخاص في انخفاض معدل النمو الاقتصادي، وأصبح القطاع الحكومي جاذبا للعمالة "وللوظيفة الميري" بل إن "المصرنة" تعززت داخل النفوس بشكل حال كثيراً دون بيع بعض الشركات الكبرى لبعض المستثمرين الأجانب لمجرد الخوف على الوظيفة المضمونة التي ستكون مهددة في حال مجيء المستثمر الذي سينظر لمعدل الإنتاجية والربحية بما ينعكس سلباً على الموظف السلبي! ولعلنا جميعاً نتذكر الضجة التي أعقبت خبر النية لبيع محلات التجزئة الشهيرة "سعودي"، ونحن هنا في المملكة نمر حالياً بالمنعطف نفسه أو النفق الذي دخلته مصر من خلال دعوتنا المستمرة للسعودة التي تأتي على حساب الجودة، ونعلم نحن من خلال التجارب السابقة أن نجاح "أرامكو" إنما تحقق بسبب الإدارة الأجنبية لها طوال عقود وأن استمرار نجاحها بعد السعودة إنما جاء نتيجة التدريب في تلك البيئة الخصبة، وهكذا هو الحال مع مشروعات الجبيل وينبع البتروكيماوية التي تم فيها الاعتماد على التدريب والاستعانة بالخبرات الكورية واليابانية، وكذلك ما شهدته بدايات الطفرة في المملكة من توافد الشركات الأجنبية (شرقية وغربية) التي تولت تنفيذ مشاريع البنية التحتية في المدن الكبرى، وبالمقابل فإننا لا نزال نشهد فشل الكثير من مشاريعنا التي تولاها المقاول المحلي الذي لا يملك الخبرة ولا التجربة.

إننا لا زلنا نحتاج إلى الخبرة الأجنبية في إدارة الكثير من أمورنا التنموية وعلينا -مثلاً- أن نتخلى بكل أريحية عن إدارة المرور في شوارعنا وطرقنا في المدن والقرى والضواحي وأن نسلمها للأجنبي كي يدلنا على إدارة هذا المعترك المتفاقم بالنسق نفسه الذي يطبق في بلادهم.

ويمكن القياس على المرور في كثير من عناصر وأدوات التنمية الحديثة التي يجب إيكالها إلى أهلها الأدرى والأخبر والأكثر والأقدم تجربة، ثم يتم التحول تدريجياً إلى السعودة على أن نترك هامشا مفتوحا ومرنا دائما للاستعانة بالخبرة الأمهر، والأمر نفسه ينطبق مثلاً على تجربة الإسكان الأجنبية وكذلك إدارة وتنمية ألعاب القوى وإدارة سكك الحديد والطيران وغير ذلك من المستجدات التي نحتاج فيها إلى خبرة المبدع.

إن سر تخلف التنمية في كثير من أقطار العالم العربي عائد لعجز وسوء الإدارة المحلية القُطرية التي تم إحلالها على الفور بعد طرد المستعمر، ويؤسفني أن أقول إن شواهد التنمية في أكثر البلاد العربية التي خضعت للاستعمار هي من بقايا هذا الاستعمار بما يعني عجز الإدارة المحلية عن التحرك خطوة للأمام بعد الاستقلال.

وهكذا فإن المبالغة في التوطين تتسبب في العزلة الإدارية عن كل المتغيرات والتطورات التي يشهدها العالم الآخر، وهذا يعني أن المبالغة في الوطنية والإيغال في المحلية انقيادان اختياريان للفشل في ظل الانفتاح العالمي الذي لم نأخذ منه إلا المظهر القشري والغطاء الخارجي الذي هو تعزيز للرأسمالية والفردانية والمسلك الاستهلاكي السلعي في الملبس والمأكل.