على الرصيف مفترشا أيامه، يهيم بين زوايا الحي حافي القدمين، يبحث عن فسحة ظل، أو برهة من راحة أو أعطية من عابر سبيل، هائما بين الطرقات والأزقة.
ثيابه الرثة وجسمه النحيل ووجه الشحوب أعطت تعريفه للعابرين والساكنين أنه المشرد والتائه والمجنون والمدمن - حسب تعريف أعطاه له المجتمع - الذي ينعكس من خلاله طريقة وأسلوب التعامل مع هذه الفئة بين متعاطف وخائف ومتأفف وطارد ولا مبال به، ظاهرة بدت للعيان أخذت المسؤولية عنها تتأرجح بين جهات رسمية من شؤون اجتماعية ومن صحة وإعلام وجهات أمنية، وعن دور مجتمع راح يرفضهم بلا وعي، ليبرز للسطح فجوة قانونية واجتماعية وإنسانية حول هؤلاء التائهين والمشرديين والمدمنين، ليدق خبراء الاجتماع والصحة والقانون ناقوس خطر يستعجل وجود لائحة نظامية قانونية لحفظ حقوقهم وتفنيد دور الجهات الاجتماعية والصحية وتحديدها عن إيوائهم ومعالجتهم ودراسة الأسباب الكامنة في كثرتهم كظاهرة بدت تطفو على السطح.
أسباب اجتماعية
وفي حديث للاستشاري النفسي محمد شاووش عن المشردين قال لـ"الوطن": إن التشرد موضوع اجتماعي أكثر من كونه موضوعا نفسيا، لأن التشرد له أسباب كثيرة، وتأتي الأسباب الاجتماعية أكثر أهمية، فالتشرد هو دلالة نوع من التفكك الاجتماعي وتضعضع لبعض القيم الاجتماعية، فالتحول من الأسرة الممتدة التي كانت تحوي الأعمامم والإخوان والأجداد، التي كانت تسهم في احتضان الشخص عند الأزمة أو الفاقة وتقديم العون له واحتوائه قد تحولت إلى الأسرة النووية، التي تقتصر على العائلة الصغيرة والمحدودة في الزوجيين وأبنائهم، وهذا قلل من الترابط وتقديم العون النفسي والاجتماعي بين أبناء العائلة الواحدة، فأصبحت حياة الأسرة اليوم في كونها أسرة محدودة تشبه إلى حد كبير نمط الأسرة الغربية، من ناحية تفكك الترابط والتكافل بين الأسرة الممتدة التي كان عليها مجتمعنا.
دور للإيواء
وعن دور المستشفيات النفسية حول هؤلاء المرضى قال شاووش: دورها هو تقديم العلاج لهؤلاء المرضى وليس الإيواء، وهذا الدور يقع على عاتق وزارة الشؤون الاجتماعية من توفير دور للنقاهة، وأيضا وجود الدراسات والأبحاث والخطط حول هذه الفئات من المرضى النفسيين والمشردين بمعرفة السبل الفاعلة في التعامل معهم واحتوائهم ومعالجتهم وتقديم الرعاية والعون وإيوائهم.
قصور
وأشار إلى أن من الأسباب التي أدت إلى تفاقم حالة هؤلاء المشردين ووصولهم إلى هذه الدرجة من عدم الرعاية وتفاقم حالاتهم النفسية والاجتماعية هو قصور كثير من الجهات عن تقديم الرعاية لهم، فالجمعيات الخيرية لا تهتم بهم ولا تقدم لهم الدعم ويقتصر دورها على تقديم الرعاية للأيتام والأرامل وبعض فئات محددة من المعوزيين بالمجتمع ولا تهتم أبدا بالمرضى النفسيين، كما أن تعاطف المجتمع قليل مع هذه الفئة نتيجة الإحباط في القدرة على التعامل معهم وقلة الوعي ورفضهم بشكل قوي، كما أن الإعلام أيضا قدمهم بصورة مشوهة ولم يقم بالدور المرجو منه في إظهار أن لهم حقوقا قانونية واجتماعية. وأضاف أن الأسرة التي تتخلى عن هذا المشرد تكون وصلت إلى حد من الإحباط في احتوائه أو التعامل معه أو رعايته نتيجة أن بعضهم يكون فاقدا للسيطرة على تصرفاته فتتخلى عنه في نهاية المطاف، محذرا أن هذه الفئات يمكن أن يتم استغلالها في عمليات إجرامية كالسرقة أو تهريب المخدرات وتوزيعها، كما يمكن أن يستغل هؤلاء المشردون في عمليات إرهابية.
الانتحار
وعن هل هناك من ارتباط بين الاكتئاب والإحباط وحالة هؤلاء المشردين أشار شاووش إلى أن هناك اختلافا بين من هم يعانون من الاكتئاب المزمن أو الإحباط الشديد، الذي يقود في بعض الحالات إلى الانتحار وبين حالة هؤلاء المشردين فالغالب كما يقول أن تكون حالة هؤلاء المشردين بسبب الفصام العقلي أو الإدمان على المخدرات، الذي جعل من ذويهم أن يتخلوا عنهم بعد أن وصلوا لحالة من الإحباط الشديد منهم، وتفاقمت حالتهم بعد ذلك عند ما وجدوا أنفسهم بلا مأوى أو رعاية أو علاج وأيضا رفض المجتمع لهم بشكل كبير وغياب الدور الإعلامي ودور الجهات الخيرية والجمعيات.
فصام
وعن أنواع الأمراض النفسية الشائعة بينهم، قال الأخصائي النفسي محمد عبدالله إن نسبة المرضى العقليين من مجموع السكان في أي مجتمع يكون حسب الإحصاءات العلمية 1%. وهم عادة يكونون مصابين بمرض الفصام. وهناك نسبة كبيرة من المشردين هم من مدمني المخدرات.
مؤكدا على ضرورة إقرار لائحة حقوق المريض النفسي في السعودية لأنه لا يمكن تقديم الرعاية وحفظ حقوق واحتواء هؤلاء المرضى والمشردين في ظل عدم وجود أنظمة وقوانين تجعل هناك وضوحا للأدوار على كل جهة تختص بجانب هذه الفئات وأي مجهودات ستكون غير ناجعة إذا لم تكن هناك لائحة قانونية منظمة لحقوقهم ورعايتهم.
وفي إشارة من قبل استشاري الطب النفسي بجامعة جازان الدكتور رشاد السنوسي أن هناك خطر الاستغلال الجنسي والموت الذي يلاحق المشردين في الشوارع من المرضى النفسيين بسبب الاضطرابات العقلية التي يعانونها، موضحاً أنهم يشكلون خطراً جسيماً على غيرهم، وذلك عندما يكونون تحت تأثير "المخدر".
تمييز
وفي حديث لـ"الوطن" حول مسؤولية هؤلاء المشردين عن أفعالهم واعتداءاتهم على الآخرين وتطبيق القوانين عليهم قال المستشار القانوني عبدالله مراد: إن الذي يؤخذ به هو القدرة على العقل التمييزي لدى هؤلاء المشردين ويحاكم كل منهم على أساس قواه العقلية، فهل هو من المجانين أو أن عقله تحت حاجب من مؤثر ومخدر ومسكر فلكل حالة تقييم خاص بها. ومتى ما كان بقواه العقلية فيبقى هذا المتشرد مسؤولا عن تصرفاته". وتابع "وهناك من اختار التشرد بإرادته ولديه التمييز العقلي"، مؤكدا أن التعامل معهم يكون أولا بتحديد درجة قواهم العقلية ومدى مسؤوليتهم عن ما فعلوا من حيث تمييزهم العقلي.
وعن مدى قانونية احتجاز هذا المشرد من قبل الجهات الأمنية كفعل احترازي لتفادي اعتدائه على الآخرين كما يطالب به الكثيرين، أوضح مراد: أن ضبط هذا المتشرد من قبل الجهات الأمنية يكون لتقييم حالته هل هو مجنون أو مدمن، إما أن يتم حجزه فقط لكونه مشردا وإبقاؤه محتجزا فهذا لا يتم لأنه أمر ليس قانونيا وليس هناك من حق لإبقائه محتجزا كونه مشردا فقط أو بتهمة أنه متشرد، ملمحا إلى أن الدور الإنساني هو الأهم قبل أي إجراءات من أي جهة قانونية، وذلك بتقديم الرعاية والمأوى والعلاج وأن يجد هذا المتشرد مكانا يؤيه من البرد والشمس والجوع والمرض، وأن المسؤولية الاجتماعية تأتي في الحرص على هذا المشرد قبل القانونية كما يقول.
مختتما حديثه أن حالة هؤلاء المشردين لم تصل إلى كونها ظاهرة ولكنها بدت واضحة للعيان في الفترة الأخيرة.
اختلاف الأدوار
وفي حديث على لسان المتحدث الإعلامي للشؤون الاجتماعية في منطقة مكة المكرمة أحمد الغامدي قال: إن دور الجهات الرسمية المتعاملة مع هذه الفئات من المجتمع يختلف حسب حالة هذا المشرد من كون هذا المشرد لا يجد راعيا ولا مأوى وليس لديهم أي معانة نفسية وأثبتت الكشوفات الصحية خلوهم من أمراض معدية، فهؤلاء يتم تقديم الرعاية والمأوى لهم من قبل الشؤون الاجتماعية وهذا هو دورها الرسمي حول هؤلاء المشردين"، مشيرا إلى أن وزارة الصحة مسؤولة عن إيواء ورعاية المرضى النفسيين وإيوائهم في أماكن إيواء تتناسب مع حالاتهم الصحية.
احتواء المرضى
وكان رئيس جمعية حقوق الإنسان الدكتور مفلح القحطاني قد كشف عن صدور توجيهات عليا باحتواء المرضى نفسيا المشردين في الأحياء السكنية والشوارع، وعلاجهم في مراكز متخصصة، ونقل الاختصاص من وزارة الشؤون الاجتماعية إلى وزارة الصحة.
وقال القحطاني "رصدنا الكثير من الحالات في المدن، وكذلك بعض العقبات التي توضع أمام أسر المرضى المشردين، ومنها اعتذار المصحات النفسية عن قبولهم لعدم وجود أسرة للتنويم، إلى جانب الإجراءات الطويلة والمعقدة، وطالب الدكتور القحطاني بتخصيص خط ساخن لاستقبال البلاغات الخاصة عن المرضى المتجولين في الشوارع تشرف عليه جهات مختصة، مشيرا إلى أهمية وجود مصحات نفسية تضم كوادر طبية مدربة تتقن التعامل مع المرضى، مع وضع آلية خاصة للعمل فيها تختلف تماما عن المنشآت الصحية".