تقع منطقة الخليج العربي على زوايا ومنحنيات كثيرة في الجغرافيا التضاريسية والبشرية، والاقتصادية، والدينية كذلك، فهي من أكثر المناطق العربية توسطا بين عدد من الدول التي تجاورها، وتحديدا تلك الدول التي فيها من الأزمات السياسية الشيء الكثير، الأمر الذي يهدد أمن المنطقة ككل كاليمن والعراق وسورية، ويهدد أمن الخليج بشكل أخص، كما أن تهديدات في انخفاض النفط تلوح بالأفق تخرج عنها بعض التقارير الاقتصادية من هنا أو هناك يمكن أن يكون أحد أهم التحديات على هذه المنطقة بالذات.
كذلك هي منطقة زاخرة بالتنوع البشري والثقافي، وتقع على مفترق طرق من عدد من كثير من المذاهب الدينية المختلفة، وإذا ما أضفنا العوامل الاقتصادية المساعدة على نهضة الخليج منذ حوالى أكثر من خمسين عاما، فإن حجم الكتلة البشرية في الخليج كبيرة ومتنوعة، وقد تكون مفضية إلى توسع أكبر وتنوع أكثر، لذلك يمكن أن تحقق المشتركات الخليجية الشيء الكثير، إلا أن التحديات يمكن أن تكون داخل هذه المشتركات، فكما أنه يُحمد للخليجيين هذا التنوع، على سبيل المثال، فإنه يمكن أن يكون منطقة توتر، إذا لم تنتبه دول الخليج إلى تعزيز قيمة الاختلاف مع المواطنة داخل ذلك التنوع، خصوصا أن دولا أخرى تحاول اختراق المنظومة الخليجية وتزرع توترات عديدة داخلها، تحقيقا لهيمنتها ونفوذها في المنطقة، كما يُروّج عن جمهورية إيران ورؤاها التوسعية.
بعد عودة السفراء والمصالحة الخليجية، يصبح من المهم طرح كل التحديات على المستوى الاقتصادي والديني والسياسي في دول الخليج كافة حتى يمكن الخروج بصيغة توافقية، ويبدو أن هذا ما يحصل، ويتحقق بشكل ملحوظ حاليا بعد قمة الرياض الأخيرة. وفي الحقيقة أنه كان من المتوقع، توقعا يصل حد الجزم منذ فترة، أن يصل الأشقاء في الخليج إلى اتفاق مشترك يردم الهوة التي حصلت بعد سحب السفراء، لأن عمق التواصل كان كبيرا، والخلافات ليست خلافات ممتدة، بل هي خلافات أشقاء غالبا ما تعود الأمور إلى مجاريها. السعودية والإمارات والبحرين وقطر ودول مجلس التعاون الخليجي كافة تربطها أواصر الأخوة، والنسب، والجيرة، والتداخل المجتمعي، لذلك غالبا ما كانت دول الخليج شعوبا، وحكومات، خارج إطار الخلاف الممتد. الأشقاء الخليجيون أسرة واحدة كبيرة، فيها كل ما في مفهوم الأسرة، أو العشيرة، من تواصل قيمي وثقافي واجتماعي، حتى وإن اختلفت الرؤى والمذاهب والتيارات والسياسات، لذلك فإن الخلافات غالبا ما تردم ويصل الأشقاء إلى حلول توافقية. التداخل الخليجي والتعايش الفكري والمذهبي: سياسيا واجتماعا، يشي دائما إلى وحدة توافقية أشبه ما تكون بالوحدة المتعددة، بمعنى أن الاختلاف بين دول مجلس الخليجي يحقق التكامل لتلك الوحدة ولا ينفيها، متى ما تحققت معادلة الحفاظ على الهويات الصغرى والمواطنة التي هي الهوية الأعلى، أي ثنائية الاختلاف والمواطنة، وعلى هذا الأساس يمكن للقراءة الفكرية والسياسية للبيان الذي ظهر من الديوان الملكي بتصريح خادم الحرمين الشريفين بعد اتفاق الرياض التكميلي أن تستحضر كل هذه المعاني وإن لم يصرح بها بشكل مباشر، فهي أسس فكرية تقوم عليها الكثير من دول مجلس التعاون في منظومتها، والقراءة الفكرية التي لا تستحضر كل ذلك التنوع الخليجي ستبقى قاصرة لأنها أعطت جانبا دون آخر، أو ركزت على التوافق السياسي دون المجتمعي والفكري والديني. وللأسف فإن عددا من الكتاب والمثقفين لم يراعوا هذا الجانب في نقدهم لقطر أثناء سحب السفراء مزايدين على وطنية الآخرين، فعمق التواصل الخليجي أكبر بكثير من عمق الخلافات، وها هي تعود دول مجلس التعاون إلى توافقها، ولا عزاء للمرجفين.
هذا من جهة العمق الثقافي والاجتماعي والسياسي في الخليج. من جهة أخرى، فإن دول مجلس التعاون، بشكل عام، أمام تحديات لا تستثني أحدا، ولا تقترب من دولة دون أخرى، فما يحصل في دولة عربية يمكن أن يؤثر في كامل المنطقة، فما بالك في دولة خليجية! وعلى هذا الأساس يكون من المهم أن يكون هناك اتفاق كما هو اتفاق الرياض التكميلي، في الوقوف أمام ما يمكن أن يُشكل عقبة من عقبات التواصل، أو أي أمر يمكن أن يفضي إلى تفكك المنظومة الخليجية ويردم الخلافات لتحقيق الصالح العام للمنطقة، وليس لدول الخليج فقط، فالمنطقة العربية دخلت في إشكاليات وتحديات كبيرة من حروب أهلية وانتشار الفساد والإرهاب، وتدخل بعض الدول الأخرى غير العربية في بلبلة الأوضاع في المنطقة، والخليج هو المنطقة المؤهلة حاليا في تحقيق التوازن العربي، بحكم أنه كان الأكثر استقرارا منذ اندلاع الثورات العربية، إضافة إلى أن صدى الثورات اقترب كثيرا من الخليج لولا أن الأمور هدأت لاحقا، وأفضت إلى سلم اجتماعي يستحق الدراسة، ويأتي الاتفاق كأحد العوامل التي يمكن أن تحد من عودتها، أو تسير بدول المنطقة إلى بر الأمان.
كما يأتي النداء، في التصريح، لدولة مصر لما لها من ثقل سياسي وثقافي في المنطقة العربية كاملة، إضافة إلى أنها من أهم الدول العربية التي عادت إلى حالة الاستقرار بعد اندلاع الثورات، وأثرت ثورتها في كامل المنطقة العربية، والبيان إذ يصرح بها تحديدا دون غيرها، فلأن ما تمتلكه مصر من ثقل: حكومة وشعبا، يمكن أن يحقق توازنا كبيرا في المنطقة، ويسد ثغرة من الثغرات التي يمكن أن يلج إليها أعداء الاستقرار العربي، كما أن دول مجلس الخليج وتحديدا السعودية والإمارات، سبق وأن كان لها دور في استقرار مصر خاصة من الناحية المالية، وعلى هذا الجانب تصبح مصر أحد الشركاء في استقرار منطقة الخليج والمنطقة العربية بعمومها.
إن المصالحة الخليجية أحد أهم عوامل الاستقرار العربي، فالمنطقة تعج بالمشكلات، وبقاء الخليج كتلة اقتصادية وسياسية مؤثرة يمكن أن يقود إلى سلم المنطقة متى ما تم استثمار استقرار الخليج في استقرار المنطقة العربية كلها، لكن بعد أن تضع دول مجلس التعاون الخليجي أمام أعينها التحديات العديدة، وتسعى إلى حلها، حلا بعيد المدى، ومحققا لمزيد من العمل التنموي في الداخل الخليجي وفي خارجه.