لم أكن أرغب في العودة إلى موضوع "الهوية" التي كتبت عنها بعض الانطباعات الشخصية في المقال السابق، فهي قضية فكرية شائكة تحتاج إلى باحثين ومفكرين ـ ولست منهم بالطبع ـ ولكني كنت أحاول "الخربشة" حولها، بحسب نظرة شخصية قد تكون سليمة أو قد تكون عكس ذلك.
لكن ما دعاني إلى مواصلة التطرق للأمر اليوم، هي نقطة يثيرها بعض قراء الكتابات الصحفية دائما، تتمثل في سؤال: أنتم تطرحون المشكلات، ولكن أين الحلول المقترحة؟ وهو سؤال وجيه في جانب، ولكنه في جوانب أخرى، يحتاج إلى توضيح وتفريق بين مهمة الكتابة الصحفية، ومن يصنع القرار وينفذه.
المهم، هنا أنني أجزم بأن معالجة أي مشكلات في الهوية والانتماء في العالم العربي والإسلامي بشكل عام، وفي بلادنا بوجه خاص، ليست بالأمر السهل، نظرا إلى تداخلاتها العميقة مع الإرث الفكري للأمة ومتطلبات الحداثة والعولمة، التي تُسير الاقتصاد والثقافة والسياسة على وجه الخصوص. لكن هل سألنا أنفسنا سؤالا مباشرا وحاولنا الإجابة عنه بشفافية مثل: لماذا استطاعت الدول الغربية وأميركا على وجه الخصوص، فيما نعجر عنه يوميا، حل مشكلات "الهوية"؟
وقبل محاولة الإجابة عن هذا السؤال، لا بد أن نعترف بأن أول خطوة للعلاج، هي الاعتراف بأن تغيرا كبيرا في مفهوم "الهوية والانتماء" ذاته لدى الأجيال الجديدة، يظهر في مجالات كثيرة، ولعل أقربها الجانب الرياضي الذي يعد أكثر جانب يمكن الحديث فيه بحرية وشفافية شبه مطلقة. فالكثيرون يتحدثون عن "غياب روح الانتماء للشعار والتضحية من أجله، بعكس ما كان موجودا سابقا". وأنا لا أرى الأمر "غيابا للروح" أو "تخاذلا" أو ما يشابه ذلك، مما يردده "المحللون"، بقدر ما هو تغير وتطور لمفهوم "الهوية" نفسه، بناء على حركية الزمن وتمازج الثقافات. فالشاب الذي يطلع يوميا على مئات التجارب العالمية في مجال الحقوق والواجبات "الوطنية"، يُكون حصيلة ذهنية مختلفة عن الأجيال السابقة التي تتهمه بـ"الخذلان" و"الدلع". هذه الحصيلة المعرفية تنعكس على تفكيره وتقديره للأمور وبالتالي على قراراته وانفعالاته حتى في ملعب كرة القدم أو الشارع.
إذن، فالحقيقة التي يجب أن نواجهها بصراحة وعملية، تتمثل في أن المواعظ الدينية والاجتماعية والشعارات الكبيرة والمتناقضة أحيانا، لن تصنع شيئا في هذا الزمن، بل العكس قد تكون مصدرا للسخرية والنفور من البعض. فلن تصنع الهوية للدول الحديثة، سوى قوانين واضحة تطبق على الجميع بـ"المسطرة"، وعدالة اجتماعية، تنطلق من مفاهيم حقوق الإنسان المدنية التي هي جوهر الإسلام. ولنكن على يقين أننا مهما صرفنا الملايين على كتب دراسية في "الوطنية" أو على احتفالات عامة، فإنها لن تحدث التغيير الإيجابي الذي ننشده، إذا لم تكن بالتوازي مع "ثورة" قوانين ونظم تحقق أعلى معايير العدالة والشفافية، ومعيارها الأول "المواطنة"، وهو ما فعلته ولو بشكل نسبي الدول الغريبة والولايات المتحدة الأميركية "لمن يبحث عن إجابة على السؤال أعلاه".