تحدثنا في مقال سابق عن أهمية الاستثمار في التعليم، وعرفنا أن كل دولار يستثمر في مراحل التعليم الأولية يدر عائداً على الاستثمار يصل إلى 17 دولاراً أي 17 ضعفاً، كما عرفنا أن أهم عامل في نجاح منظومة التعليم في المدارس هو المعلم، وأن المعلم المتمكن الفعال يؤثر على تحصيل الطالب بمقدار ثلاثة إلى أربعة أضعاف معلم آخر ضعيف غير فعال، وأن التأثير التراكمي على مدى ثلاثة أعوام يعادل تحصيل 37% مع المعلم غير الفعال، مقارنة بـ90% مع المعلم الفعال المتمكن.
كما أن الطالب بين يدي معلم فعال متمكن يستطيع أن يحصل على ثلاثة أضعاف العلم مقارنة بالمعلم غير الفعال الضعيف، أي أن تحصيل عام واحد مع معلم فعال أفضل من تحصيل ثلاثة أعوام مع معلم غير فعال.
واستعرضنا تجربة شاب أميركي من أصل هندي اسمه سلمان خان، بدأت قصته في أواخر عام 2004 حين بدأ في تدريس مادة الرياضيات لأقارب له عبر الإنترنت، وعندما زاد طلب الأقرباء والأصدقاء للمساعدة، قرر توزيع الدروس على موقع يوتيوب، وأنشأ عام 2006 حسابا على يوتيوب.
وبسبب شعبية الفيديوهات المعروضة وشهادات التقدير التي تلقاها من الطلاب، قرر سلمان ترك عمله كمحلل مالي في صناديق الاستثمار في أواخر 2009، وتفرغ لتطوير قناة أكاديمية خان على اليوتيوب بدوام كامل، حتى أصبحت أكاديمية خان التعليمية أشهر نموذج عالمي في هذا المجال، حيث تقوم بتوفير التعليم عالي الجودة لأي شخص في أي مكان في العالم، كما حققت أكثر من 42 مليون زائر، ويوفر موقعها على الإنترنت أكثر من ثلاثة آلاف وستمئة محاضرة صغيرة بمعدل عشر دقائق للحلقة عبر فيديوهات مخزنة على يوتيوب لتدريس مواد مثل الرياضيات والفيزياء والكيمياء والأحياء والتاريخ والفلك والاقتصاد، إضافة إلى أكثر من 123 وحدة تدريبات آلية مع تقييم مستمر.
ووصولاً إلى التجربة التركية حيث بدأت تركيا عام 2011 بتطبيق أكبر مشروع استثماري في التربية والتعليم في تاريخها بقيمة سبعة مليارات، وأطلق عليه اسم مشروع (الفاتح)، ليتم توزيع القارئ الإلكتروني (آي باد) مجاناً مشمولاً ببرنامج الفاتح على 15 مليون طالب ومليون مدرس وتركيب ألواح ذكية بدلا من الألواح السوداء في 570 ألف صف دراسي و42 ألف مدرسة، وانتقل التعليم في تركيا إلى عصر التقنية لتصبح الكتب الدراسية كلها مضمنة في جهاز الآي باد بالفيديوهات التوضيحية والصور والخرائط والرسوم البيانية.
أما في عالمنا العربي فقد تم إنشاء أكاديمية التحرير في عام 2012 بعد ثورة 25 يناير بمصر بمجهودات شبابية على غرار أكاديمية خان من خلال جهود الشاب المصري وائل غنيم وشعارها (ثورتنا على المعرفة التقليدية)، وتهدف هذه الأكاديمية إلى تحرير المعرفة من شكلها التقليدي عن طريق فيديوهات مبتكرة وجذابة ومنهج مجاني على يوتيوب، مما يساعد على إتاحة العلوم للجميع في أي وقت ومكان ومن خلال أي جهاز لرفع فعالية التعليم، وهي تعتمد على الأنظمة المفتوحة التي تزدهر بإسهامات جميع المشاركين، وتسعى لأن تصبح النسخة العربية من أكاديمية خان العالمية في جميع التخصصات.
نعود للمعلم والذي يعد من أهم عوامل إنجاح المنظومة التعليمية.. ما هو تأثير تطبيق هذه البرامج التعليمية عليه؟ وما هو دوره؟ إنه من الصعب أن نرتقي بملايين المعلمين في بضع سنين إلى المستوى الذي نأمله.
وبما أن هناك مجموعة من المعلمين المتميزين المبدعين ذوي الملكات الخاصة والقدرات الفائقة في التدريس بأسلوبهم الشيق الذي يأسر الطلاب ويوصل المعلومة لهم بكل سلاسة ويسر، وبما أنهم ندرة، فإذا تم تفعيل هذه الندرة المبدعة في تدريس هذه المواد بأحدث الطرق التقنية والوسائل التوضيحية المتقدمة والفيديوهات وتمت تغطية كافة المواد من الابتدائي إلى الثانوي وضمنت في جهاز آي باد، فليس الطالب وحده هو الذي سيستفيد وتزداد فعاليته وتحصيله الدراسي، وإنما الأساتذة أيضاً سيتعلمون..
سيتعلم الأساتذة من الشرح النموذجي، ليصبح هذا الشرح المسجل هو المثال والقدوة لملايين المعلمين، وهذا أكثر فعالية وتأثيراً من أي دورات تدريبية تقليدية، ويصبح المعلم حريصاً على أن ينافس في الأداء مع الشرح النموذجي الذي بين أيدي الطلاب، ويصبح الطالب حارساً على جودة التعليم فلا يقبل بأقل مما يرى، ونقدم كذلك لأولياء الأمور خيار المساهمة والمشاركة في المراجعة والشرح بكل يسر وسهولة دون اللجوء إلى الدروس الخصوصية في المنزل، فالمنهج متاح بين أيديهم في أجمل صوره وأكثرها فعالية بالصوت والصورة.
بل سيصبح المعلم أكثر فعالية، حيث إن الطلبة سيأتون وقد استمعوا إلى الدرس، ويصبح دور المعلم ليس إعطاء المعلومة وإنما تعليم أمور أخرى لا تقل أهمية، وهي الحث والتحفيز والتشجيع على المشاركة والمناقشة والحوار وممارسة التطبيقات العملية على المادة والدعم المعنوي والمادي.
بل ومحاولة إيجاد طرق لتجسيد وتحريك وتفعيل المفاهيم والأفكار الجديدة التي كونتها المعلومة في عقل الطالب، أي تحويل الأفكار من النظرية التجريدية إلى تطبيقات عملية محسوسة وملموسة، وهي بمثابة الاختبار والفحص والامتحان العملي النشط للنظريات والأفكار التجريدية، وبذلك تكون قد اكتملت وتحققت دائرة التعلم في دماغ المتعلم من استقبال المعلومة إلى التفكر فيها لتكوين المعرفة وأفكار جديدة إلى تفعيل هذه المفاهيم والأفكار في الدماغ إلى أنشطة عملية حركية.
هناك دراسات عديدة تؤكد أهمية تقييم المعلم ومكافأته بسخاء لا على سنوات خبرته وشهاداته، وإنما على التحصيل الدراسي وأداء طلبته في الاختبارات الموحدة على مستوى الدولة، وبذلك نكافئ المعلم الفعال المتمكن الذي يحمل اهتماماً حقيقياً بنجاح طلبته وينجح في إيقاظ شعلة حب المادة في قلوبهم ويرفع من حماسهم للعلم والتحصيل.
إن الطريقة التقليدية للتعليم والتي تعتمد على أحادية المنهج وتنتج نسخاً متشابهة من الأشخاص ذوي الأهداف والرؤية النمطية، أصبحت غير مقبولة لهذا الجيل، فهي لا تفتح المجال للاختلاف والإبداع والتعددية في الأهداف والتوجهات للمتعلمين، ولا تضع بالاعتبار اختلاف القدرات والمهارات والاحتياجات من شخص لآخر.
إننا في أمس الحاجة في عالمنا العربي إلى نهضة حقيقية في التعليم، وليس علينا أن نبدأ من الصفر، بل نبدأ من حيث انتهى الآخرون، خاصة أن الدراسات والشواهد والنتائج كلها تؤكد نجاح هذه المشاريع التعليمية الرائدة للنهوض بالمنظومة التعليمية طلاباً ومعلمين.
ولن يكون هناك ما يعود على المجتمع بعائد استثماري أعلى من الاستثمار في التعليم الأولي، ففي هذه السنوات يتم تشكيل دماغ الإنسان وتكوين الشبكات العصبية التي بها يستطيع أن يفكر ويحلل ويخطط للمستقبل.
وكل عام يمر على الطالب بين يدي معلم ضعيف غير فعال هو إهدار لعقل الإنسان. إن هذا النوع من الاستثمار إن لم يوضع في تلك السنوات الأولى.. سنوات التشكيل.. تشكيل عقل الإنسان.. عقل الطالب المدرسي.. طالب اليوم.. رجل وامرأة الغد، فلن تجدي عشرات الأضعاف من الاستثمارات لاحقاً لتعويض ما ضاع في السنوات الأولى عندما كان الدماغ أكثر تأهيلا وتهيئة للتشكيل والتغيير والتطور المذهل لو أنه أُحسنت رعايته والاستثمار فيه.
فمتى سنرى في عالمنا العربي ثورات تعليمية كتلك التي يشهدها العالم من حولنا؟ ومتى سندرك أن رأس المال الحقيقي الذي نملكه هو الإنسان الذي يصقل اليوم ويشكل بطرق أقل ما يمكن أن نصفها بأنها متأخرة ومتخلفة عن كثير من شعوب أخرى قد لا تملك ما نملك من ثروات ومقدرات طبيعية واستثمارات واحتياطات مالية.