كاميرا صغيرة، يحملها حاج فلسطيني ستيني أينما حل وارتحل بين المشاعر المقدسة، تكاد لا تفارقه إلا في حالة واحدة، إذا غلبه النوم، وسرعان ما يستفيق ليتفقد من جديد لقطات تلك الكاميرا.

ذاك هو حال الحاج سليمان محمد أبوجمع، الملقب بـ"أبوسفر"، يتحدث كثيراً عن جرائم حرب الـ51 يوماً من الاعتداءات الإسرائيلية الأخيرة على قطاع غزة، فهو لا يحمل تلك الكاميرا لتصوير رحلته المقدسة فقط من منطقة بني سهيلة شرقي خان يونس إلى مشعر منى، بل يعدّ حملها أمانة في عنقه يبين فيها لمن حوله من الحجيج فظاعة ما اقترفته آلة الحرب الإسرائيلية.

يسترجع "أبوسفر" بعد تنهيدة طويلة ممزوجة بالألم مع بريق من الدمعات حاول حبسها ليستجمع قصة من فقدهم في الـ20 من رمضان الماضي، وكانت البداية من منطقة أبوجامع شارع أبوسفر بالقرب من مسجد عمر بن الخطاب في منطقة بني سهيلة شرق خان يونس.

يتذكر مآسي تلك الليلة وتفاصيلها، حينما ارتفع صوت الحق إيذاناً بإفطار الصائمين، لتبدأ معها مآسي عائلة "أبوجمع" الـ28 من شهدائهم قضوا نحبهم في ثوانٍ، إثر صاروخ أطلق على منزل شقيقه ذي الطوابق الأربعة من طائرة F16 قضت على كامل المبنى.

"الصاعق" و"البرميل" قنبلتان كبيرتا الحجم تقومان بهالة تدميرية عبر شفط الهدف إلى عمق 8 أمتار تحت سطح الأرض، وقبل الضربة طلب أبوسفر من زوجه إدخال وجبة الإفطار إلى داخل المنزل، لحدس في داخله عن خطر محدق لا يعلم وقته، وما هي إلا لحظات حتى حصل ما توجس منه الحاج الفلسطيني.

بمرارة يسترجع أبوسفر عملية إنقاذ ما يمكن إنقاذه من أبناء شقيقه الراحل، الذين قضوا في تلك الضربة إلا اثنين كتبت لهما الحياة من جديد، بعد محاولات استمرت ساعات طويلة من بين أكوام الأنقاض التي خلفتها تلك الغارة الجوية. ولم ينج من تلك العائلة سوى ابن شقيقه وحفيده.

لكن أكثر ما استوقف أبوسفر ومن حوله ممن يستمعون لقصته في مشعر منى، حديث سابق دار بينه وبين أحد الذين استشهدوا من أبناء شقيقه، الذي كانت نفسه تتوق كلما اقترب موسم الحج من كل عام، ليقطع الحديث بكلمات أثرت فيمن حوله عن ذاك الفقيد صاحب أمنية الرحلة المقدسة إلى عرفات المريض بالقلب، قائلاً: "لقد قضى الإسرائيليون على أمنيته ومحو سجله المدني بموت جميع عائلته".

حينما سألناه عن الدعوات التي حملها من غزة إلى المشاعر المقدسة، والتي جمعها في إطارات عديدة، منها دعوته للشهداء من أبناء شقيقه بالرحمة والمغفرة، إلا أنه خص بالدعاء أيضاً أن لا تعكر أجواء المصالحة بين فتح وحماس، وأن لا يعود الشعب الفلسطيني، الذي عانى طوال أكثر من 50 عاماً، إلى الانقسام والتشظي من جديد.