"من على شرفة فندق البارون وسط حلب، يحتسي السوري أرمين مظلوميان ذو الثلاثة وستين عاما قهوته، مطلا، تماما، على خط الجبهة الفاصل، ببضعة أمتار فقط، بين القوات الحكومية والمتمردين ضد نظام الأسد، غير آبه بأصوات القذائف ورصاص القناصة".
بهذه السطور افتتحت وكالة الأنباء الفرنسية مقالها الذي سقط كقذيفة تحت مرمى عيني وأنا أطالع صحيفة "لا برس" الكندية في عددها المنشور بتاريخ 18 نوفمبر 2014.
واسمحوا لي أن أقترف خطيئة التناص والتعليق على النص، لأن قلبي المعلق هناك على أدراج قلعة حلب، المسفوح على قارعة سوق الحمدانية الشهير، المغسول بصابون غارها المتبل بحنين الرغبة، والمقتول عشقا بسهام المتنبي وأبي فراس الحمداني، يمنعني من ارتكاب حماقة الحيادية، فبعض الحياد جريمة كما تعلمون.
يقول النص الفرنسي وسأشير إلى الترجمة الحرفية بقوسين صغيرين: "قرن من الزمن تفصل المكان عن زمن ولادته، هناك في المدينة العظيمة، التاريخية والصناعية والاقتصادية. عام 1911 أسسه البارون ـ جد أرتين ـ فحمل اسمه"، وحمل معه رائحة تلك الحقبة، حين كان العالم مكانا أقل تحضرا وربما أقل وحشية وأكثر جمالا.
هنا، في هذا المكان، "ألقى الرئيس المصري الراحل جمال عبدالناصر خطابه عام 1958، وعام 1930 كتبت الروائية أجاثا كريستي اثنين من أشهر كتبها: جريمة في قطار الشرق السريع، وجريمة قتل في بلاد ما بين النهرين. ولكن البارون توقف عن العمل منذ استيلاء المعارضة المسلحة على هذا الجزء من المدينة في يوليو عام 2012.
أرمين مظلوميان هو آخر أربعة أجيال من الأرمن من أصحاب الفنادق. جده الأكبر، كريكور، افتتح في النصف الثاني من القرن التاسع عشر أول فندق في مدينة حلب، واسمه أرارات، على اسم جبل أرارات في أرمينيا التاريخية وتركيا الحالية، وهو اليوم ورغم أنه يرتشف قهوته غير آبه بصوت القذائف ورصاص القناصة، غير متفائل، فالحرب بدأت قبل أربع سنوات، ولا يعتقد أن فندقه الأثير سيفتح أبوابه مجددا".
وتغويني الصحيفة بالحزن، وتخلع مع كل حرف تسرده قطعة من قلبي المعتقل. فالعزيز أرتين ليس الحزين والمتشائم الوحيد في هذه الحرب العبثية، بل ربما هو الأقل موتا في هذه الجنازة السورية الجماعية: أرتين لم يقتل ـ بضم الياء ـ لم يعذب حد الثمالة، لم يسكن مخيمات العار، لم يُنف إلى أراض باتت تنوء بثقل السوريين كما ينوء المريض بمرض عضال ومُعْدٍ.
أرتين ما زال في حلب، يتنسم هواءها المشبوب برغبة خجولة، مجروحة، وباردة، في استعادة الحياة يوما ما، أرتين يراقب الأزقة القديمة بعد أن لونتها أصابع الثورة، أو ما يعدّه هو حربا، ولا أجرؤ هنا على الانتقاص من حزن الرجل، فجميعنا مشاريع قبور لبعضها فقط ترف الشاهدة.
أتابع القراءة: "في بهو الفندق، على جدار أصفر، تجد ملصقا من عام 1930 يستعيد الأيام الخوالي: فندق البارون، الوحيد المصنف ـ حينها ـ من الدرجة الأولى في حلب، التدفئة المركزية في جميع أنحائه، راحة مثالية، حالة فريدة من نوعها، والموصى به فقط من قبل وكالات السفر.
ولكن الآن كل شيء يبدو وقد عفا عليه الزمن، باليا ومغطى بالتراب: الهواتف، شرائط الخشب المصقول، الأثاث، زجاجات الشراب الفارغة، فتحات السقف المثقوب بالقذائف التي تسمح للمياه بالدلف إلى البهو، والغرف التي تؤوي لاجئين".. لاجئين...؟
ترد الكلمة مرة واحدة في النص، لا يتوقف الكاتب عندها، فقط "الغرف التي تؤوي لاجئين".
ويواصل حديثه عن الغرف، فالغرف تخزن تاريخها وتحمل أمجاد وعظمة من مروا بها، أما اللاجئون فلا تاريخ لهم ولا ذاكرة، هم مجرد أرقام، أو ربما كلمة سقطت سهوا من محرر المقالة أو الصحيفة كي لا أظلم العزيز أرتين!
نتابع النص: "الجناح 201 خصص لمؤسس تركيا الحديثة كمال أتاتورك، الجناح 215 كان يحجز لفيصل الأول ملك سورية والعراق، لورنس العرب كان يحظى بالجناح 202، فيما الرقم 203 كان مفضلا لدى أجاثا كريستي، والأجنحة ذاتها أو غيرها استقبلت بحفاوة وترف، الملياردير ديفيد روكفلر، شارل ديجول، الطيار تشارلز ليندبرج والمغني شارل أزنافور وغيرهم".
النص المصاغ بعناية ولغة فرنسية سلسة ومعبرة يتطرق أكثر من مرة إلى حزن ويأس أرتين وقسمات وجهه المنهكة وذقنه غير الحليقة وقبعته الزرقاء وكلبه الروسي الأسود، ويتجاهل كليا قسمات لاجئي غرف البارون وذعرهم وهم ينتظرون الموت مع كل قذيفة تعبر سماء المدينة، أو سقف البارون العظيم، ربما، لأنه عدّهم لاجئي خمس نجوم، فالموت ذعرا أو خنقا أو تفجيرا في مكان أقام فيه كبار الساسة والملوك والفنانين ترف لا تحظى به إلا قلة نادرة من السوريين. فما الجدوى من ذكرهم؟
للموت ألوان، البعض يتقن قراءتها: النهايات الفارهة لها رائحة مغوية لشهية الحديث، أما نهايات الفقراء... فسرها الصمت.
الموت في سرير عادي لا يشبهه في سرير أثري، مشهد التشظي تحت قذيفة في بناء فقير نقش أطفال جدرانه بالطباشير الملون الرخيص لا يشبه دراميا الموت تحت سقف فندق البارون الشهير.
للذعر والذل أيضا طقوسهما التراجيدية المتنوعة. عويل الحاجة والخوف في عيون النازحين إلى المناطق السورية الخاضعة لسيطرة النظام الأسدي لا يطابق سينمائية اللحظة التاريخية المرصودة في مقاصل "داعش".
الامتهان اللا إنساني لما تبقى من كرامة أقدام الأطفال الحافية في ثلج مخيمات اللجوء في الأردن وتركيا ولبنان، لا يحاكي بصريا نظيره في مخيمات شانزيليزيه باريس ومنافي النخب والمناضلين السياسيين وقصص عذاباتهم ونفيهم، المستهلكة على صفحات كبريات الصحف الغربية.
لم تكن، ولم تعد وسائل الإعلام الغربية تأبه بالسوريين، هم مجرد أرقام، شواهد حكائية، قصص للإثارة والفرجة السينمائية، للدهشة والسبق الصحفي وجذب القراء ومتابعة الحدث، أوابد أثرية بشرية تسيل لعاب شركات الإنتاج وهواة الفن المنغمس بالدم، واللامعقول.
لم يعد السوريون نفسهم يأبهون بأنفسهم، فهم مجرد أرقام، بعضها يسكن في غرف البارون، وبعضها الآخر يسكن في مهب الريح، حيث لا بارون يؤويهم بعد اليوم، فلا غرف شاغرة للسوريين!