حينما تقرأ مذكرات كتاب "أنا ملالا"، ستدرك جيدا معنى الشغف الحقيقي تجاه التعليم، في بيئة فقيرة مغلقة تهاجم التعليم وترى أن الفتيات لا حقوق لهن، حتى قبل أن تتمكن منه الجماعة المتطرفة. اشتهرت "ملالا" بعد تعرضها لمحاولة اغتيال من قبل جماعة طالبان في باكستان قبل عامين، لكن قصتها كما يشير البعض لا يمكن اختزالها في طالبان، فـ"ملالا يوسفزاي" الفتاة البشتونية ذات الـ17 ربيعا، ناشطة باكستانية وحائزة على جائزة نوبل للسلام هذا العام، ولدت في الوقت الذي كانت فيه أسرتها ترزح تحت فقر شديد، وفي كتابها "أنا ملالا" تحدثت عن تجارب في دولة "تأسست في منتصف الليل"، بحسب تعبيرها، فتعرض وضع الأنثى في قريتها الصغيرة، حيث لا يتعدى دورها إعداد الطعام، وإنجاب الأطفال، وكيف تعامل والدها مع الناس يوم مولدها، لتنتقل بعد ذلك إلى الواقع الاجتماعي في القرية، قبل أن تنتقل إلى الوضع السياسي لباكستان في حكاياتها عن أبيها.
كنت أتوقف طويلا وأنا أقرأ الملحمة الرائعة وحديثها عن قريتها، وعن حلمها ورغبتها الصادقة في أن يكون التعليم متاحا لجميع فتيات مجتمعها، وعلاقتها الممتدة بوالدها الذي حملت ملامحه ولم تحمل ملامح والدتها الفاتنة. إن كل ما يربط "ملالا" في قريتها وادي "سوات" هو التعليم، إنها تقول إنه حينما تم تهديدها بالقتل من جماعة طالبان، كانت تظن أنه يمكنها أن تدافع عن نفسها قائلة لمن أراد قتلها، وكتم صوتها "أنصت إليّ أولاً، لست أحمل أي ضغينة ضدك، فكل ما أريده هو أن تلتحق كل الفتيات بالمدرسة".
لذا إن كان لديك أطفال ومراهقون في أسرتك كثيرو الغياب مثلما يحدث في أسرتي، فأنا أطلب منك صادقة عدم قراءة كتاب ملالا مطلقا، لأنك لن تتحمل مقارنة هذا النموذج الفريد بدلع "بزاريننا"، بل ستشعر بكم من الحسرة والألم على كسل أطفالنا الذين تم توفير كل المستلزمات المدرسية لهم، وتوفير كل ما يرغبون فيه، من أجل أن ندفعهم للذهاب إلى المدرسة وعدم البكاء بشكل يومي، إما لرغبتهم في إكمال نومهم أو اللعب عبر أجهزة "السوني".
تذهب "ملالا" إلى مدرستها مشيا على قدميها، وتعبر النهر الصغير الذي تنبعث منه رائحة كريهة.. الآن هل يمكن لأي من أطفالنا أن يذهب عبر قدميه إلى مدرسته سعيدا وبهيا، ربما في بعض قرى السعودية يحدث ذلك، ولكن في مدينتي لا أجد سوى السيارات حديثة الصنع تنتظر "بزاريننا" خارج المدرسة، فيما دأب البعض من باب المحافظة على أطفاله بإرسال خادمة البيت لجلبهم، خوفا عليهم لا سمح الله، من تحرشات السائق، وهذا أمر أؤيده وبشدة، وتقول "ملالا": "في مجتمعنا يصعب على الفتيات أن يمتهن أي مهنة عدا التدريس أو الطب"، ونحن في السعودية يتم ابتعاث الآلاف من الطلبة والطالبات خارج الوطن، كي يكملوا دراستهم الجامعية والعليا على نفقة الدولة، متحملة حكومتنا المسؤوليات المادية كافة، رافعة عن كاهل الأسرة ضغوطا مادية كبرى، إلى جانب الرعاية المستمرة من قبل ملحقياتنا الثقافية في سفاراتنا المنتشرة حول العالم.
وحينما تحدثت "ملالا" عن باص المدرسة، قالت إنه لم يكن سوى ناقلة شحن تويوتا من طراز "داينا"، رغم ذلك كانت جميع أحلام الفتيات في الباص هي الدراسة وتلقي التعليم، وكن يغالبن نظرات الآخرين لهن، على أمل أن تشرع السماء لهن علوما وثقافة وأدبا.
"ملالا" التي سماها والدها تيمنا باسم ملالاي مايواند وهي البطلة الأفغانية العظيمة، تشبهني جدا في شغفي الشديد بالتعليم والدراسة، حيث كنت مثلها أنام وأستيقظ وأنا أحلم بالغد والمستقبل، لم أكن أفكر بشيء سوى أن أكمل تعليمي، لكن في الوقت الحاضر فأنا أضع يدي على قلبي، لأنني لا أستطيع أن أفهم ماذا يريد هذا الجيل، البعض يحب مدرسته بسبب وجود رفقائه في الصف الدراسي، وهو يعيش أوقاتا سعيدة معهم، متناسيا هدف التعليم الأساسي، فهو يرى أن المدرسة مجرد بيت آخر أقرب لأن يكون سجنا، على الأخص أثناء عقابه أو عدم احترامه حتى لو أخطأ.
أنا أعيش أوقاتا سيئة حينما أستمع لكم التعليقات السيئة من الطلبة والطالبات، وعدم رغبتهم في الدراسة، هذا أمر يقلقني جدا، يقلقني ألا يحب أطفالنا ومراهقونا مدارسهم ومعلميهم، يقلقني جدا نظام التعليم غير المحفز للإبداع، والذي يُحّمل المعلم والمعلمة القيام بأدوار أخرى من أجل دعم مسيرة التعليم وبجهود شخصية من قبلهم، رغم كل الصعوبات التي تواجههم من قبل تعسف وشللية بعض مديري ومديرات المدارس في المملكة.
من جهة أخرى، أطالب المعلمين والمعلمات بتخصيص حصة دراسية واحدة للحديث عن شغف "ملالا" ورفيقاتها في المدرسة بالتعليم، رغم الفقر والبيئة القاسية التي عشن بها، من أجل أن يدرك طلابنا وطالباتنا أنهم يعيشون في نعمة كبيرة، بدلا من الترف والطلبات التي لا تنتهي، التي أحيانا تصل إلى حد استغلال أحد الوالدين بطلب الكثير من الهدايا، حتى لا يتغيبوا فقط عن المدرسة.