لتعلم كم نحن نعاني من خلافاتنا، ولتدرك كم نحن مستفزون "بفتح التاء والفاء"، انظر فقط إلى الخطاب الدائر عبر مواقع التواصل الاجتماعي بين الفريقين الكبيرين، من يطلق عليهم الإسلاميون، ومن يحملون مسمى الليبراليين. ولن أدعوك لتغوص في كل سجالاتهما، لأنها في معظمها تشاتمية انتقاصية مملة، لا تتوقف أبدا، وفي فحواها لا تأخذ من الجمل إلا أذنه وتترك الأهم وما يريده الناس، ناهيك عن أن كل منهما على حق لا يدخله الباطل أبدا، وأنصاره يبشرون ويروجون انتصاره والحق الذي إلى جانبه حتى لو تبين لهم عكس ذلك!
لن أتركك عزيزي القارئ تدخل في خضم تلك الفوضى، سأكتفي بقصة بسيطة تم تداولها الأسبوع الماضي، وفيها من الاختلافات والشتيمة ما الله به عليم.. وفيه تُرك الجمل وتقاتلوا على أذنه فقط. والقصة تبدأ من الشيخ صالح المغامسي الذي استعرض سيرة عبدالله القصيمي ورحلته من العلم الشرعي وتأثيره فيه إلى الإلحاد، وأحسب أن أسلوب الشيخ وبيانه كانا يحملان من الرقي والعلم الشيء الكثير، إلا أنه قد نسب للقصيمي مؤلفا هو لغيره، ومثل هذا الخطأ وارد ومن الممكن التراجع عنه أو حتى تصحيحه حين أشار إلى أن السلسلة الروائية "مدن الملح" من تأليف القصيمي، والحقيقة أنها للروائي السعودي عبدالرحمن منيف.
من هنا تبدأ الحكاية حيث كان جديرا أن نقرأ فكر المغامسي عن القصيمي بتمعن وإن كان هناك ما يستحق الرد من خلال الفكرة الأساسية للموضوع فنرد عليه أو نناقشه فيه، لكن الأغلبية تركت كل الفكر والرسالة، وذهبت إلى الرواية المنسوبة خطأ لتكون المحور والأساس التنابزي، ليكثر الجدل وتبرز الاتهامات وفي كثير من الأخيرتين ضيق الأفق والجهل، وللأسف أنهما من تصدرا الخطاب الجدلي المشحون.. فمن نظن أنهم ليبراليون انغمسوا في الخطأ واعتبروه عنوانا للجهل ومحدودية العلم والتفكير، وهل خطأ بسيط من الممكن تعديله يجعلهم متطرفين في حكمهم على الشيخ؟ بل إن بعضا منهم قد بنى عليه أسس العلم الشرعي التي -حسب رأيه- لا تعترف بغيرها من العلوم، ولا تسمي المفكرين والمبدعين في الجوانب الحياتية كالطب والفيزياء والميكانيكا وغيرها علماء، بل إنها تقتصره على أصحاب الفقه والحديث وما تفرع عنهما فقط، ولذا فإن خطأ المغامسي -على حد رأيهم- هو تعبير أمثل عن المحدودية في الفكر لأصحاب الشأن الإسلامي!
الفريق الآخر "الإسلاميون" كانوا كما سابقيهم في التعبير، بل إن لغة التعميم كانت حاضرة أكثر والأقرب للواقعية منهم من يرى أن منيف والقصيمي سواء في الإلحاد والفكر الضار، ولا بأس من الخلط بينهما، الأشد والأنكى أن بعضا قليلا يرون أن "الشيخ أبخص" فهو أراد بإقحام المؤلف أن يضرب عصفورين بحجر واحد كي يكشف رؤوس الضلالة، وهل هؤلاء يطلعون على الغيب، هم قالوا ذلك فقط لأجل الانتصار لصاحبهم ولا عليهم إن خاضوا في الغيبيات!
خلاصة القول إن خطأ بسيطا كهذا يفتح آفاقا اختلافية كبرى، وكأننا أصبحنا لا نعيش إلا على الانتقاص والتشاتم، والأشد رفض الآخر، ولتكون مواقع التواصل السبيل الأمثل لتفريغ ما في الجوف من عفن عبرها، وهو عفن يحمل كل التوجهات التي تبحث عن الانتصار لأصحابها.. وفي الحقيقة أن هناك متكسبين مستفيدون من ذلك.. ليحضر السؤال الأهم: من هم هؤلاء المستفيدون؟