نحن وجدنا على هذه الأرض من أجل العمل على بناء الأرض، كيف إذا تاه هذا المفهوم المقدس عن الأذهان، وأصبح جل الفكر والجهد من أجل المصالح الشخصية؟ كيف سنبني ونحن نحمل الكراهية والعداء لمن هم مختلفون عنا فكريا أو مذهبيا أو عرقيا؟! الكثير يحمل وهم البناء وهو يحمل معول الهدم، يقولون ما لا يفعلون! تقترب يبتعدون، تحاور يتهربون، تبُين لهم الوقائع يشوهون ويفبركون ويعتمون! تسير في طريقك واضعا أهدافا واضحة لك ولمن حولك، فتهاجم بأحط الطرق والوسائل! ماذا تفعل؟ هل تغض البصر؟

لننظر في بيئة العمل ماذا يجري، تجد أن هناك تعديات على حقوق الموظف من شخص ما في الإدارة، بغض النظر عن خلفيته أو جنسيته أو مذهبه، وفي المقابل تجد الزملاء لا يحركون ساكنا خوفا على الوظيفة أو لأن المعتدى عليه ليس منهم، حسب معتقدهم!

ماذا عن شخصيات عامة، قد نتفق معها أو لا نتفق، تحارب وتهاجم في دينها وفي عرضها وفي أخلاقها، ليس عن حق بل زور وبهتان، كيف تكون ردة الفعل؟ نسارع إلى التصديق بل ننضم إلى جوقة المهاجمين دون أدنى وخز للضمير! قلة من يقف ويقول يا ناس اتقوا الله، أما البقية ممن لا يصدق فيكتفي بالصمت خوفا من أن يتهم هو أيضا في دينه أو وطنيته!

وحين تظهر قضية ما نسارع إلى توجيه أصابع الاتهام، قد نظلم وقد نصيب في الاتهام ولكن هل درسنا الأمر من وجهة نظر أو موقع الآخر؟ هل أعطينا هذا الآخر فرصة ليوضح لنا حقيقة الأمر، هل صبرنا وأصغينا قبل أن نحكم بأن الإجابات احترمت ذكاءنا ولم تأت كمن يفسر الماء بعد الجهد بالماء؟!

ونطالب بحل هذه المشكلة أو تلك، ولكن لا نشارك في وضع الحلول، وإن حدث وخرج أحدهم بالحل نسارع إلى التقليل من الفكرة أو إحباط صاحبها لمجرد أنها لم ترق لنا أو لأننا لم نفهمها، وبدلا من أن نستوضح أو نقدم تعديلات عليها ونكون جزءا من الحل، نصر على أن نكون جزءا من المشكلة بالاستمرار بالشكوى والتذمر!

ماهرون في الإبحار في الإنترنت وفي وسائل الاتصال الاجتماعي، خاصة حين نريد أن نجد ما يعزز وجهات نظرنا، عندها لا نلتفت إلى كل ما يقدم الرؤى الأخرى، بل نتعداها بكل أريحية وكأننا لم نرها أصلا، ونتمسك بما نريد أن نظهره! عالم الإنترنت مفتوح أمامنا والأخبار تصب من جميع الجهات الصديقة والمعادية والمعتدلة، لكننا نتكاسل أو نتجاهل، مفضلين طوعا ذاك الصندوق السحري، فندير مفاتيحه ونتقبل كل ما يعرض عليه، طبعا عبر القنوات التي نتابعها فقط، وعلى أنها الحقائق المطلقة!

تصلك رسائل على "الواتس أب" كلها كراهية وعداء بل أفكار هدامة للوحدة الاجتماعية وأمن الوطن، ماذا نفعل؟! نعيد إرسالها دون تفكير لمجرد أنها تبدأ بـ"بسم الله" وتنتهي بـ"انشر تؤجر"! لا نقرأ ولا نحلل، نأخذها على أنها مجرد مادة للتواصل كي نقول نحن هنا عضو فعّال في المجموعة!

يطل علينا كتّاب أو شخصيات أدبية وثقافية، يهاجمون طائفة أو مذهبا ما، وبعد كل هجمة صاروخية مسددة يذيلون تحليلاتهم أو معلوماتهم بأننا لا نريد سوى التوضيح - حاشى لله أن نكون ممن يجيش العامة - ما نريد سوى الإصلاح! بل منهم وبكل وقاحة وسخرية من عقول البشر يصطفون ضمن أول من يندد بأحداث العنف، بل إن بعضهم يندد على خجل بمعنى أن تنديده يصبح مثل عدمه! ماذا يتوقعون أن يصغي إليهم أتباع الطائفة أو المذهب الذي يهاجمونه؟! أبهذه الطريقة وهذه السهولة سيندفعون إليهم متخلين عن كل معتقداتهم؟! أم أن رسائلهم، وهم يعلمون ذلك جيدا، موجهة لأتباعهم ليشعلوا في قلوبهم المزيد من الغل والكراهية!

أما العجب العجاب - ولنترك الرجال جانبا هذه المرة - فمن تهاجم المرأة ومطالب المرأة، لأن ذلك - حسب رأيها - تغريب! فمجرد سماعهم كلمة حقوق يضعون خطا أحمر ويبدأ الهجوم المعاكس، قد نقدر من تتحدث من خلال فكر أو أدلة وحجج قوية، أي الفكر مقابل الفكر والحجة مقابل الحجة، ولكن ماذا عمن تفعل ذلك من أجل أن تظهر أمام الجنس الآخر بأنها تدافع عن دينها أو تراثها، وفي الحقيقة كل ما تريده هو لفت الأنظار! ليست كل من تدافع عن حقوق المرأة صاحبة نية صادقة، وبالمقابل ليست كل من تهاجم وتقلل من شأن الأخريات ملاكا طاهرا، ولكن ضمن غالبية من يحارب المرأة للأسف تتصدرهم.. المرأة!

البناء لا يكون بالتأجيج أو العداء والتنافر، البناء لا يكون بالحياد من أجل الخوف على المصالح الشخصية، البناء لا يكون بالفبركة والتضليل، البناء لا يكون على حساب سمعة وأعراض الآخرين، ولا يكون بتجاهل ورفض كل معلومة موثقة لمجرد أنها لم توافق أهواءنا أو رؤانا.. البناء لا يكون من أجل الشهرة وحب الظهور، ولا يكون بالارتقاء على أكتاف الآخرين.. البناء هو المحبة، هو الإصغاء والحوار، هو عرض المشاكل مع اقتراح الحلول، البناء هو الاعتراف بأننا جزء من الكل، أسرة ومجتمعا، وطنا وأمة وعالما، البناء هو التحلي بالفكر الواعي الناقد الموضوعي، البناء هو البحث والتقصي بأنفسنا.. أن نكون نحن المصدر لا المتلقي، البناء هو القدرة على التكييف والرغبة في التغيير للأفضل. هو التفكير بمصلحة الكل مع مصلحة الفرد، يا سادة البناء هو ألاّ نغض البصر ونقف بوجه كل أنواع الهدم والعداء.