تذمر بعض أفراد وفئات المجتمع العربي من العولمة بشكل مطلق، وما تبعها من انفتاح على مصادر المعلومات، لتكوين الرأي وفق التفكير الحر، يتقاطع في مظاهره ـ إلى حد كبير ـ مع خوف بعض العبيد من تحررهم، فما حصل للعبيد من تحرر مفاجئ في أميركا، يكاد أن يتطابق كثيراً في إسقاطاته ومظاهره لما حصل لشعوب تحررت فكرياً، بحكم ثورة الاتصالات والمعلومات التي أحالت العالم إلى أسرة واحدة: العولمة.
سنحاول التقريب بأمثلة، فعندما تستمع لبعضهم وهو يحكي عن الحرية ومصطلحاتها والمدارس الفلسفية الداعمة لها، تراه يحكي بخوف وقلق وتحذير وشجب تتوارى خلفها إسقاطاته الاجتماعية الخاصة التي تتشابه مع مآسي العبيد بعد تحررهم المفاجئ في أميركا مثلاً، إذ ازدادت بينهم نسبة الجريمة وتشكيل العصابات والإدمان، والسؤال هنا: هل ما أصاب السود مثلاً في أميركا بعد تحريرهم سببه عائد إلى خطأ "إبراهام لنكولن" في الحرص على تحريرهم، أو كما كان يقول القساوسة والرهبان المعارضون له: إن ذلك مخالف لتعاليم السماء، وإن الرب لو أراد لحررهم مباشرة دون الحاجة لتشريع قانوني من البشر.
هل أعراض العولمة على الفكر المستعبد تشبه الأعراض الاجتماعية التي أصابت المستعبدين في أميركا بعد تحررهم المفاجئ من سلوك طريق الجريمة والمخدرات؟ أقصى ما يمكن قوله عند تأمل كثير من الأطروحات الفكرية المضادة لفلسفة الحرية أنها تستعيد لا شعورياً معطيات المرحلة الثانية بعد إبراهام لنكولن، فالمستعبدون بعد تحريرهم مباشرة قانونياً، لم يُعتَرف بهم اجتماعياً، بل بقوا تحت التمييز العنصري إلى وقت قريب، فالسود والكلاب لا يدخلون المطاعم المخصصة للبيض.. الخ من مظاهر كان أقوى تجلياتها العالمية على مستوى اللون والعرق صراع نيسلون مانديلا في الاستحقاقات السياسية لبني جلدته في جنوب أفريقيا.
ما علاقة كل هذا بالتفكير الحر؟ علاقته تكمن في أن انعتاق الفكر من قيود المنع عن الوصول للمعلومات والمعارف الإنسـانية (ما قبـل العولمة) ـ في دول العالم الثالث خصوصاً ـ له أثر على الأفراد يشبه نفس الأثر الذي أصاب المستعبدين بعد تحررهم، بل إن ردود أفعالهم على المستوى الفكري للفرد تشبه ردود أفعال المستعبدين بعد حصولهم على الحرية المفاجئة، فالذين حصلوا على تحررهم الفكري ارتطموا بواقعهم الذي تفاجؤوا به، وللإضافة فإن كثيراً من منظري الحقوق الإنسانية، يرى وجوب إعادة تأهيل السجين لسنوات طويلة، قبل الخروج من السجن، وعدم تركه لارتطامات الحرية الفجائية، حتى ولو كان يعرف الحياة ما قبل السجن، لأن الانقطاع عن العالم لسنوات طويلة سيخلق ثغرات سلوكية، قد تسبب له فصاما وآثارا أخرى تعزله عن التفاعل الإيجابي مع واقعه الاجتماعي الجديد زماناً ومكاناً.
ما علاقة السجين لفترات طويلة، والمستعبدين بأعراض التحرر الفكري المفاجئ؟ المظاهر المختلفة وتنوعاتها تجاه الحرية على المستوى السلوكي اليومي، هي نفسها على المستوى الفكري، فقد اتجه الكثير من المستعبدين بعد تحررهم إلى أنواع الكيف والمخدرات بشرهٍ شديد ومخيف، إذ تحولوا إلى غرائزيين بشكل يجعل بعض المستعبدين يخاف من هذا المصير ولا يجد حلاً من هذا المصير إلا بالعودة إلى منزل أسياده القدامى طالباً منهم العمل في منازلهم خادما أو في مزارعهم راعيا وعاملا في الحقل، بدلاً من هذا التيه الذي يرى فيه المتحررين الجدد، ولكن هؤلاء الخائفين تناسوا أن عودتهم خدما في منازل أسيادهم القدامى، ليست حلاً حقيقياً بقدر ما هي هروب حقيقي من الحرية وتبعاتها؟!
لأن الحرية الحقيقية ـ فعلاً ـ بحاجة إلى أرضية من التكيف الروحي والجهد المعرفي مع شيء من الدربة والممارسة وفرصة التجريب، فالطفل حبيس المنزل يستلهم رؤاه من مواعظ والديه، والذي لا يستوعب مفهوم التجارة في المكسب عبر فارق السعر، سيعتبر التاجر الذي يشتري البضاعة بخمسة ويبيعها بثمانية مجرد كذاب، يحتال على الناس بتغييب السعر الحقيقي للشراء، وعندما تحاصر هذا الطفل بسؤال: وكيف تريده أن يربح؟ فيجيبك بنصائح تلقاها من أبويه عن عدم الكذب.... فتجادله بأن التاجر لا يكذب، لأن المشترين يعرفون مسألة فرق السعر كحق ربحي له، فيرد عليك بصلافة وعظية ساذجة: (معنى هذا أن المجتمع يتواطأ مع التاجر على الكذب، والكذب يبقى كذبا، اعترض الناس عليه أو وافقوا) أما الطفل الطبيعي الذي نشأ وهو مطمئن مع الحياة المدنية خارج المنزل تحت حرية التجريب لمعرفة الصحيح من الخطأ، سينمو ويلتحق بكلية الاقتصاد فيتخرج ليشرح لنا بعمق العلماء العارفين الخطر الحقيقي في التضخم الاقتصادي، بدلاً من انشغالات طفولية في مسائل الكذب وحرمته في البيع والشراء.
المثال السابق تقريبي وليس حقيقيا للمسائل الفكرية التي تعانيها كثير من المجتمعات العربية، والخوف من آثار الحرية غير مبرر أبداً، لأنه أخف ألف مرة من آثار العبودية للبشر تحت أي عنوان.
كل ما ذكر بسبب ما نراه على شكل مقال أو كتاب هنا أو هناك يغالط بالتحذير من الحرية باستخدام مصطلحات منظري الحرية كنوع من المكر الكتابي، أي تقييد مراوغ لحرية التفكير، فيتحول الكاتب إلى خادم لسدنة الاستعباد الفكري فترى في ظلال ترافعاته وأطروحاته ذلك الرجل الذي كان يقول لمناضلي الحرية والمساواة في أميركا: ما الذي تشكون منه فها نحن أحرار، وها أنا كما ترون ألبس "الكرافتة"، والبدلة الأنيقة، ولا أشعر بأي إهانة، فيرد عليه أحدهم: إن الحرية يا صديقي ليست في اللبس الأنيق، بل في إدراكك الواقع المر بأنك ما زلت خادماً في منزل أسيادك القدامى، فكيف بعبيد الحقل من بني جلدتك الذين لا يتمتعون بربطة عنق، والتي منحك إياها سيدك كحيوان منزلي يجب أن ينظفه جيداً كي لا يملأ المنزل بالقمل، فهل عرفت كم أنت بعيد عن معنى الحرية الحقيقية؟ فسيدك يلبس ربطة العنق وجاهة لنفسه، وأنت تلبسها وجاهة لسيدك ومنزله الفاره.
الحرية ليست مخيفة، ولا تحتاج تخريجات فكرية تعيد المجتمع إلى مربع يستعبد بعضه بعضاً تحت عناوين أيديولوجية، ولكنها تحتاج فقط ما احتاجه المستعبدون في أميركا بعد تحررهم مباشرة، إذ كانوا ممنوعين من القراءة والكتابة، وإن تعلموا شيئاً من الإنجيل فيجب أن يكون وفق تفسيرات تؤكد واقعهم العبودي، فأقصى ما يطمحون إليه أن يكونوا عبيداً غير آبقين لأسيادهم كي ينعموا بمباركة القساوسة ورضا الأسياد.
الحرية ليست مخيفة، ولكن فصام الحرية هو المخيف، والقفز على المناهج الفكرية لاستدراك عمر فات في هوامش ومتون تراثية، سيخرج خداجات فكرية لا تستطيع الوقوف على قدميها حرة مستقلة، فما أمضاه كثير من الأقلام الخائفة من الحرية الفكرية، وهي سجينة كتب التراث المذهبية الضيقة عبر ربع قرن أو يزيد، لتعيد تأهيل نفسها عبر قراءة بضع سنين على المعارف الإنسانية المفتوحة، سيجعلها ترتد قلقاً وخوفاً، فقليلاً من التواضع والموضوعية ورباطة الجأش العقلية، كفيل بطرد الخرافة والوهم، فسجين أفكاره المقيم على ضوء (شمعه) يسقي فتيلها من دهن ذبائح المعابد القديمة، في ظلام دهاليزها، ستخيفه فجأة لمبات الكهرباء والنيون التي أبدعتها المعرفة الإنسانية الحديثة تحت شمس الحرية الفكرية.
لا تثريب عليكم عَبِّروا بصدق عن خوفكم الطفولي من الحرية وآثارها، لكن لا تلبسوا خوفكم عمامة الموعظة الوقورة أو ثوب المنهج الأكاديمي الرزين في الحرم الجامعي مع رطانة فرانكفونية أو أنجلوساكسونية، فحتى "داعش" الهاربة من الحرية الفكرية إلى "طوطم" المخيال الماضوي، أصبحت تبث رسائلها الأيديولوجية بالفرنسية والإنجليزية.