مع اندثار الحكمة البريطانية: "فرّق تَسُد"، وتراجع الحكمة الأميركية: "أنت معنا أو ضدنا"، وتآكل الحكمة الشيوعية: "العولمة مصيدة الرأسمالية"، تألقت الحكمة السعودية: "في الاتحاد قوة"، التي أعلنها الملك عبدالله بن عبدالعزيز في اللقاء التاريخي لقادة دول مجلس التعاون الخليجي الأسبوع الماضي.

لدحر نوايا الشر، لجأت دول المعمورة قبل نصف قرن إلى تكوين تحالفاتها الإقليمية وشراكاتها الاستراتيجية، فتآلفت شعوبها لرفعة شأنها وتنمية مواردها وتطوير ذاتها تحت أحكام التعايش بسلام ووئام، وحققت العديد من مكاسبها الاقتصادية وفوائدها السياسية. واليوم تفتخر هذه الاتحادات بكونها تتحكم بحوالى 89% من تجارة العالم، وتسيطر على 90% من حركة رؤوس الأموال، وتستأثر بنحو 92% من خدمات الاتصالات وتقنية المعلومات، وتمتلك 97% من براءات الاختراع، فشطبت من قواميسها أوصاف التخلف والاتكالية واستبدلتها بمفردات التكامل والتحالف.

قبل 17 سنة أطلقت عشر دول آسيوية، التي يخدم بعض مواطنيها في بيوتنا ومزارعنا ومصانعنا الخليجية، مجموعة "آسيان"، ليصبح هذا الاتحاد اليوم ثالث أكبر قوة اقتصادية في العالم، ويتفوق بميزان تحالفه التجاري على ضعف نظيره الأوروبي. وقبل 13 سنة أنشأت ست دول في أميركا الجنوبية اتحاد "ميركوسور" الجمركي، ليصبح اليوم من أفضل مناطق التجارة الحرة في العالم، ويتفوق على غيره من الاتحادات الجمركية بسرعة نمو تجارته البينية وقدرة أنظمته الموحدة على تعظيم مكاسبه الاقتصادية.

وعلى الرغم من تباين أديان شعوب هذه الاتحادات وتفاوت لغاتهم وعاداتهم وتقاليدهم، تآلفت قلوبهم وتلاشت أحقادهم وانصهرت همومهم في بوتقة نظام عالمي موحد. ولم تتأثر هذه الاتحادات أو تتخاذل لافتقار شعوبها لخيرات الأرض وثروات الطاقة، بل تضامنت ونجحت في خفض نسب البطالة بين مواطنيها واجتثاث الفقر من مجتمعاتها ومضاعفة استثماراتها وصادراتها.

في المقابل، تنفرد شعوبنا الخليجية بالدين الأوحد وتتميز بالمجتمع الموحد وتتحدث لغة الضاد الواحدة، وتمتلك 44% من مخزون الطاقة العالمي، الذي يعادل 15 ضعف قيمة الناتج الإجمالي العالمي السنوي، و60 ضعف قيمة التجارة العالمية و47 ضعف الميزانية السنوية لدول أميركا وأوروبا مجتمعة. إلا أن دولنا الخليجية لا زالت في مواجهة تحدياتها الرئيسة المشتركة، التي ينحصر أهمها في قدرتنا الذاتية على الدفاع عن مصالحنا وصد مطامع جاراتنا العدوانية، ويرتكز الباقي على توسيع وتعميق قاعدتنا الإنتاجية، وتوطين وظائفنا، وتحقيق الأمن المائي والغذائي لشعوبنا. لذا جاءت حكمة قائد مسيرتنا موجهة بصراحة مطلقة لقمتنا الخليجية لإعادة هيكلة أولوياتها وتوجيه طاقاتها البشرية ومواردها المالية لتوفير الحلول العملية الجذرية لهذه التحديات، من خلال تكوين الاتحاد الخليجي وتنفيذ خططه الاستراتيجية.

الإحصاءات الرسمية تشير إلى أن نسبة إسهام قطاع الخدمات في الناتج الخليجي الإجمالي لا تزيد في المتوسط عن 40%، وهي من أضعف النسب بين دول العالم، حيث تفوق هذه النسبة 60% في كل من الصين والهند، و70% في كوريا وتايوان وسنغافورة، و80% في أوروبا و85% في كل من أميركا واليابان.

والتقارير كافة تؤكد أن الفجوة المائية والغذائية في دولنا الخليجية فاقت المعدلات العالمية بنسب وصلت إلى 84% في المياه و76% في الغذاء. فنحن نستورد 100% من حاجتنا من الأرز و90% من الحبوب و85% من السكر و63% من الزيوت النباتية و60% من الأعلاف و47% من اللحوم. خلال العقد المنصرم فقط، ارتفعت فاتورة وارداتنا الغذائية بنسبة 27% سنويا، لتتضاعف مستقبلا كل ثلاث سنوات طبقا للأسعار السائدة في العام الجاري. لذا أصبح الأمن الغذائي على رأس أولوياتنا الملّحة، ومن واجبنا البدء فورا بإنشاء المخزون الاستراتيجي المشترك للماء والغذاء لضمان مستقبل أجيالنا.

كما أن الإحصاءات الرسمية تؤكد أن عدد السكان الإجمالي للدول الخليجية سيزيد خلال العقد المقبل بنسبة 57%، ليرتفع عدد الخليجيين إلى 57 مليون نسمة عام 2020، مما سيؤدي حتما إلى زيادة المعروض من قوة العمل الخليجية بنسبة تفوق 112% عما هي عليه اليوم.

النظام الأساسي لمجلس التعاون الخليجي حدد في مادته الأولى أساس تنظيم العمل المشترك وأهداف تحقيق التنسيق والتكامل والترابط بين الدول الأعضاء في جميع الميادين وصولا إلى وحدتها وتوثيق الروابط بين شعوبها، ووضع أنظمة متماثلة في مختلف الميادين الاقتصادية والمالية والتجارية والتعليمية والصحية والتشريعية والإدارية والثقافية. وإدراكا من الدول الخليجية لخصوصيتها فلقد أكدت الدول الأعضاء على ضرورة ارتباطها بعلاقات خاصة وسمات مشتركة وأنظمة متشابهة، أساسها العقيدة الإسلامية، وتقوم على مبدأ الأمن الجماعي المتكامل والمتكافل، معتمدة في ذلك على الله، ثم على الإمكانات الذاتية للدول الأعضاء لغرض الدفاع عن كيان ومقومات ومصالح هذه الدول وأراضيها وأجوائها ومياهها الإقليمية.

والاتفاقية الأمنية الموحدة الموقعة في مدينة الرياض بتاريخ 13 نوفمبر 2012، أكدت في مادتها الثانية على ضرورة التعاون بين الدول الخليجية لملاحقة الخارجين على القانون أو النظام، أو المطلوبين من الدول الأطراف، أيا كانت جنسياتهم. كما أوضحت المادة الثالثة ضرورة قيام كل دولة خليجية باتخاذ الإجراءات القانونية عند تدخل مواطنيها أو المقيمين بها في الشؤون الداخلية لأي من الدول الخليجية الأخرى. فليس من المعقول أن تكون دولة قطر ملاذا آمنا للجماعات الإرهابية والأحزاب المارقة ورموز الأفكار الجهادية المضللة.

علينا الأخذ فورا بحكمة قائد مسيرتنا – حفظه الله - فصياغة التاريخ الحديث لن تأتي صدفة محضة، بل هي حصيلة مدروسة وحتمية ملموسة لرؤى حكيمة، وحنكة ممزوجة بتحدياتنا الراهنة، وتطلعات شعوبنا.