.. وإذا كان عليه أن يستمر، فمتى نكف عن الإصغاء الحميم لإيقاعه الصاخب ونأخذ قسطا من راحتي: البال، والضمير.
نسفح الدم الغزير في حروبها العبثية، ونبذل المال الوفير على خياراتها المتقلبة.. كما لا ندري لتلك الحروب خاتمة، ولا لذاك المال جدوى.
أطلقت النفير الأول إبان الحرب الباردة، وانطلقت كتائب المجاهدين الأقحاح، تجتاح الفردوس الأعلى دفاعا عن "قبة الصخرة" في أفغانستان، ونصرة المقدسات الدينية الأثيرة في الشيشان، ولم تنس الحكومات العربية مسؤولياتها عن أحكام الحصار على شذى الأرجوان الفواح في ثنايا النجمة الحمراء لرفاق اليمن الخارجين للتو من قبضة الاحتلال البريطاني.
انتهت حاجة العم سام لشيوخ الجهاد وأمراء الحروب، وبدأ حدس "CIA" أشغاله الشاقة للتخلص من الأدلة المتناثرة على مسرح الجريمة، وفجأة إذا الحرب ضد الشيوعية تنتهي إلى اندلاع حمم القنابل الفسفورية والعنقودية والهيدروجينية، فوق معاقل وجحور حلفائها من المجاهدين في تورا بورا وأحراش قندهار، وبمحصلة ذلك تنشأ عقدة جديدة عرفت باسم: "القاعدة"، وإذا بنا نستهل نفيرا أميركيا فارقا بذريعة الحرب على الإرهاب.
الأميركيون يستحوذون على العالم، بختَل مقاول انتهازي كسول، يتقاضى الكلفة مسبقا عن كل المشاريع المحرمة على حين يحمل الآخرين مسؤولية رفع المخلفات السامة للعقل الاستعماري المريض، وعصف إنجازاته من النزاعات الداخلية والحروب البينية والكوارث الإنسانية.
العقلية الدنكشوتية الانتهازية تسترخص القيم في سبيل تحقيق هيمنتها، وهي تعمل بدأب لا متناه على تشجيع وتغذية عوامل الانقسام المحلي في أقطارنا العربية والإسلامية، ومد أسباب الفرقة والصراع بين الحكومات، وزرع الهواجس الانتقامية الثأرية في الأوساط السياسية والنخبوية، بما يضمن إذكاء النزعات الصراعية، وتحويلها إلى تعبئة روحية ومفاهيم مجتمعية شائكة ومنابر تحريضية ملتبسة.
ليس مهما أن يسقط المعبد على رؤوس الضحايا ولكن مدى العائد من ريع السياسات الترويعية على المصالح الاستعمارية.
ومع اختلال موازين الصراع الدولي المتكافئ بين الغرب الرأسمالي، وأيقونة الشرق الاشتراكي صارت كل الطرق سالكة صوب عنوان واحد لتدوير معظم شرور العصر. وحيثما يصعد دخان كثيف أو يسمع دوي انفجار أو يتشظى بلد، أو تنهار دولة، أو يصعد دكتاتور، فثمة دور أميركي يشعل أعواد الثقاب، ويعوق محاولات الإنقاذ..
سيقال: ولكنها حاربت الديكتاتوريات العربية.. والحقيقة أنها دخلت في مناورات سياسية غير جادة مع القذافي وصدام حسين، لأغراض الابتزاز الناعم، فيما كان دورها الأهم، خليطا من إضفاء صورة البطل على الديكتاتور الأهوج، والاستثمار في حقول أخطائه، ريثما تستوي الذرائع على سوقها، ويصبح التدخل المباشر، ونهب ثروات الشعوب، أمرا مسوغا.
لهذا.. يمثل الاستبداد والتطرف أهم وأكبر المشروعات الاستراتيجية الأميركية في منطقتنا العربية، وعلى مستوى العالم الإسلامي، وستظل العلاقة العضوية بين الجناحين كليهما: الاستبداد، والتطرف، قاسما مشتركا لمجمل الفعاليات الشرق أوسطية المعنية بتقطيع أوصال الوطن العربي وإعادة تقاسمه كما أسلفنا الحديث عن ذلك في تناولات سابقة.
وليست نوويات تكريت، وتتاريات "دواعش الشام" سوى جزء من سيناريوهات الاستنزاف الأميركي لإرادة وذخائر المقاومة الوطنية والقومية والإسلامية في شرقنا المهيض.
بيد أن علينا رؤية المشهد من زوايا التاريخ.. تاريخ الحضارات التي سادت ثم بادت لندرك مدى تهور السياسات الأميركية في التواري العجول خلف حطام القيم العصرية التي أسرف البيت الأبيض في استخدامها لأهداف غير نزيهة، ولا إنسانية البتة.. المؤرخون رصدوا عن كل إمبراطورية مسارها، ووثقوا خصوصياتها، وأودعوا بعضا من موروثاتها ضمن مرويات البشر، وسجل المآثر المتداولة من حضارة لأخرى.
فما الذي ستتداوله الأجيال القادمة من مقولات تقويمية عن عصر الأحادية القطبية للولايات المتحدة الأميركية على صعيدي السياسة والقوة؟
الأولى: بالتفافها على قيم الحق والعدالة والحرية، والثانية: برهانها على الاستبداد ورهاب التفوق وتقنيات الإبادة الجماعية.
من "ناجازاكي"، و"هيروشيما"، إلى دمار فلسطين، والعراق، وسورية، وليبيا، واليمن والصومال، وأفغانستان، وعشرات البلدان التي لم يأت دورها بعد في قائمة الخراب الأميركي المعولم!
كم قيما إنسانية قديمة ومعاصرة انهارت في وجدان البشر، جراء تحويل الديموقراطية والحريات العامة وحقوق الإنسان إلى شعارات مهزوزة، للمساومة وضرب المجتمعات ببعضها بعضا، ريثما يغدو الجلاد والضحية سواسية تحت نير الارتهان للروشتة الأميركية.
المرارة وحدها من ألهمت الشاعر الفلسطيني الراحل محمود درويش كتابة النص الاحتجاجي الصارخ: "أمريكا هي الطاعون.. والطاعون أمريكا".
فهل تصبح الوقاية الواعية من خطر الإصابة بالطاعون أولى بالاتباع من التعلل بمبررات انعدام الوصفة العلاجية الناجعة؟
بيد أن الشعب الأميركي ليس على هذه الشاكلة من السوء.. والواضح أن كتلة سوداء تتحرك في أوساطه وتعصف بنقائه الإنساني، والرهان على صحوة الأميركيين خارج مؤسسات اتخاذ القرار ما يزال ممكنا.