في مقاربة يقدمها المفكر مالك بن نبي حول العلاقة بين: الحق، والواجب، يقرر تقريرا متينا ويؤكد الارتباط الكامل بين القيام بالواجب لأجل الحصول على الحق، وينقل الفرد من "العبثية الفارغة" إلى "الفاعلية المنتجة"، وقد كانت هي طريقة الأنبياء والمصلحين عبر التاريخ: شحذ الهمم إلى القيام بالواجبات لأجل الحصول على الحقوق، ولذا يقرر مالك بن نبي أن "الحق ليس هدية تعطى ولا غنيمة تغتصب وإنما هو نتيجة حتمية للقيام بالواجب فهما متلازمان".

كان مالك بن نبي يشرّح الحالة النهضوية في بلاده الجزائر، ويؤكد على أن قضية المطالب دون العمل بالواجبات هي التي أحالت المجتمع إلى التكلس والضعف، إذ تسلل إلى وعي الناس أن "المطالبة بالحقوق" كفيلة بأن تصلح لهم أوضاعهم، وتنتشلهم من حالة التخلف التي يعيشون أو القضاء على مظاهر الفساد التي يعاينون، فيقول: "لقد أصبحنا لا نتكلم إلا عن حقوقنا المهضومة ونسينا واجباتنا، ونسينا أن مشكلتنا ليست فيما نستحق من رغائب بل فيما يسودنا من عادات وما يراودنا من أفكار.. وبدلا من أن تكون البلاد ورشة للعمل المثمر والقيام بالواجبات الباعثة على الحياة، فإنها أصبحت منذ سنة 1936 سوقا للانتخابات وكم رددنا عبارة: (إننا نطالب بحقوقنا) تلك الحقوق الخلابة المغرية التي يستسهلها الناس فلا يعمدون إلى الطريق الأصعب: طريق الواجبات".

إنني حين أقرأ هذا الكلام المهم من مفكر بميزان مالك بن نبي، أستشعر هذه الحالة العبثية التي تجري في مجالسنا وفي منتدياتنا، تلك الحالة التي تعبر عن انفصام بين ما يطالب به الإنسان وما يحيكه واقعه، وأدركت بعدها أن أكثر الناس ضوضاء في المجالس حديثا عن "الحقوق"، هم أقلهم فاعلية وإنتاجية وقياما بالواجب، بينما نجد المنتجين هم أقل الناس خوضا في هذه المسائل؛ لأن قيامهم بالواجب أشغلهم عن استحقاقات لا يرون أنهم يستحقونها إلا حين يقومون بالعمل الجاد الدؤوب الذي يحقق لهم ما يطالبون به بناء على قيمة ما يفعلون.

لقد نقلت هذه الحالة كثيرا من الفارغين ليتصدروا المجالس، حين يطلقون ألسنتهم بالمطالبة بالحقوق، دون أن يقوموا بأوجب الواجبات عليهم تجاه أهليهم ومسؤولياتهم الملقاة على عاتقهم، ولذا كانت التوجيهات النبوية دائما للإنسان بالعناية بنفسه في زمن الضعف والفتن، لأن العناية بالنفس سبيل إلى الإصلاح، "إذا رأيت هوى متبعا، وشحا مطاعا، ودنيا مؤثرة، فعليك بنفسك ودع عنك أمر العامة"، وقد قال عبدالله بن مسعود رضي الله عنه: "بينما نحن حول رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ ذكر الفتنة فقال: إذا رأيت الناس قد مرجت عهودهم، وخفت أماناتهم، وكانوا هكذا -وشبك بين أصابعه- قال: فقمت إليه فقلت: كيف أفعل عند ذلك جعلني الله فداك؟ قال: الزم بيتك، واملك عليك لسانك، وخذ بما تعرف، ودع ما تنكر، وعليك بأمر خاصة نفسك، ودع عنك أمر العامة".

إن العلاقة بين الحق والواجب علاقة جدلية، وكما قال النبي عليه السلام: "الخراج بالضمان"، إذ يكون الغنم في مقابل الغرم، ويكون ما ينتج من مجتمع قوي ومتماسك هو بما يقدمه من عمل وقيام بالواجبات، فالمجتمع في حقيقته هو الذي يصنع ذاته لا مجرد المطالبة بالحقوق، فالإنسان العامل القائم بواجبه هو حلقة في ماكينة كبيرة، إذا صلحت هذه الحلقات فإن الحقوق سوف تتحقق مباشرة، وهذا ما يؤكده مالك بن نبي بقوله: "لسنا بحاجة إلى نظرية تهتم بالحق على حدة، أو بالواجب على حدة، فإن الواقع الاجتماعي لا يفصلهما، بل يقرنهما ويربط بينهما في صورة منطقية أساسية، هي التي تُسيّر ركب التاريخ. ومع ذلك فينبغي ألا يغيب عن نظرنا أن "الواجب" يجب أن يتفوق على الحق في تطور صاعد، إذ يتحتم أن يكون لدينا دائما محصول وافر. أو بلغة الاقتصاد السياسي "فائض قيمة"، "هذا الواجب الفائض" هو أمارة التقدم الخلقي والمادي في كل مجتمع يشق طريقه إلى المجد. وبناء على ذلك يمكننا القول إن كل سياسة تقوم على طلب "الحقوق" ليست إلا ضربا من الهرج والفوضى. والحق أن العلاقة بين الحق والواجب هي علاقة تكوينية تفسر لنا نشأة الحق ذاته، تلك التي لا يمكن أن نتصورها منفصلة عن الواجب وهو يُعد في الواقع "أول عمل قام به الإنسان في التاريخ".