ها أنا أعود للكتابة في "الوطن"، بعد أن قضيت في غيرها ثلاث سنوات، كانت تجربة ثرية قريبة من تجربتي سابقا في الوطن، إلا أن العودة إلى "الوطن" هي عودة للذكريات الأولى مع الكتابة الصحفية، للمساحة الزرقاء التي كانت موطن طيور الفكر والكلمة التي تريد أن تحلق بعيداً. من طبيعة البدوي ألا يستقر في أرض، بل هو دائم الترحال عن وطن جديد، لكن يجره الحنين للوطن الأول. وها أنا ذا أعود محملا بكل هموم الكتابة واقفاً بين عدد كبير من الزملاء في هذه الصحيفة وفي صحف أخرى أحاول أن أصنع لنفسي خطأ يميزني بين العدد الكبير من كتاب وكاتبات صحافتنا السعودية. يختلف الكتاب فيما بينهم، فمنهم من يبقى أرستقراطي النزعة فلا يحقق في كتابه غير تحقيق ما كان وإثبات ما هو ثابت، ويتصعلك بعض الكتاب فلا يعرف للكتابة موطناً فيكون التمرد أسلوبه والثورة الفكرية حياته، ويصبح آخرون كتاباً برجوازيين يقفون بين مرحلة التمرد الدائم، والسكون الثابت، فأين يجب أن أقف؟

من الصعب الحديث عن خط وحيد في الكتابة فلكل حادثة وضعها ولكل فكرة سياقها ولكل طرح وجهة نظر تختلف وفق المعطيات، كما أنه من الصعب الحديث عن موقف واحد يمكن أن يكون فقد بدأ بعض الكتاب صعلوكاً وعاد برجوازياً، وآخر بدأ برجوازياً وانتهى به المطاف إلى أن أصبح أحد سدنة الارستقراطية في الصحافة، لكن تبقى الرؤية الفكرية هي الأهم في الموضوع حيث تتأسس الأفكار على مجال نظري، فلا تكون هناك مسافة بين الرؤية والخط الفكري العام. الموقف من المرأة مثلا لا يمكن أن يكون موقفاً متذبذباً بين السلطوية والحرية، إن تؤمن بحرية المرأة، فيجب أن تقبل قيادتها للسيارة مثلا واستقلالها الفكري والإنساني عن سلطة الرجل، وإلا وقع الكاتب في تناقض عجيب بين ادعائه حرية المرأة وسلطته الذكورية. حرية الرأي مثلا، إن تؤمن بحرية الرأي ثم تسعى لقمع الخطاب الذي يعارض ما تكتبه، أو تستعدي عليه، فأنت تعيش تناقض الكتابة. حين تؤمن بالديمقراطية مثلا فيجب أن تقبل فوز كافة التيارات السياسية الأخرى على تيارك السياسي، حتى وإن جاء بأعداء الأمس. هذه الممارسات تنقض المجال النظري الذي يدعيه الكاتب وبين ممارساته الكتابة ضد الآخرين. النقد مطلوب بالتأكيد، وهو أحد أهم أسس العملية الكتابية، لكن هناك حد واضح بين النقد والممارسات التسلطية.

هذا أمر، الأمر الآخر هو أن في الداخل السعودي عدد من التوجهات الفكرية التي تتصارع، وهي صدى أحيانا للتيارات الفكرية في الوطن العربي، وإن كانت تأخذ طابعها الخاص بحكم اختلاف السياق الاجتماعي في البلد. هذا الصراع مربك كثيرا ومعطل لعدد من القضايا الاجتماعية أو التنموية في السعودية، كما أنه يجعل المشهد السعودي أشبه بصراع تيارات منه إلى صراع فكري حقيقي وثري، بل هو أقرب أحيانا إلى ضرب تحت الحزام وخصومات غير شريفة، إلى درجة اختلاق القصص على الآخرين، واتهامهم بأعراضهم، وقد حصل هذا في جميع التيارات بلا استثناء في التيار الإسلامي والليبرالي على حد سواء، إذ كان الدخول في أعراض الناس ونواياهم وأفكارهم ومعتقداتهم من الممارسات التي بُنيت عليها آليات الصراع. نحن أمام ثلاث توجهات فكرية في السعودية تتصارع: التوجه الأكبر هو الإسلامي، وداخل هذا التوجه عدد من الصراعات بين تياراته ما بين السلفيين والإخوانيين أو الصحويين بشكل أكثر دقة، والتنويريين وغيرهم، والتوجه الليبرالي وداخله عدد من التيارات ما بين ليبرالية مؤمنة بحق الآخر في الاختلاف وليبرالية إقصائية يمارسها البعض، والتوجه الثالث: العروبي، وهو الموضة الجديدة التي انتشر صيتها مع عدد من الشباب السعوديين بعد اندلاع الثورات العربية إلا أنه مازال توجهاً في بداياته ولم يتأسس على نظرية فكرية غير الإيمان بالعروبة واتهام الآخرين بالتصهين، وهو وإن كان شبابي الطرح إلا أنه أقرب إلى عودة التيارات القومية السعودية التي كانت في الخمسينات إلى السبعينات الميلادية، ولكن بصيغة جديدة ومحسنة وأكثر شبابية.

من الصعب أن يقف الكاتب على مسافة واحدة من جميع هذه الاتجاهات، إذ لابد له من الميل، ولو نسبيا، إلى اتجاه يراه الأنسب ويتسق مع رؤاه الفكرية، فالموضوعية أصبحت وهما معرفياً؛ إذ إنه لابد من دخول الذات وتسربها حتى وإن ادعى الكاتب الموضوعية، لكن المشكلة أن الصراع الفكري بين هذه التوجهات جميعها يجعل الرؤية غير واضحة، وتجر حتى الذين لا يريدون أن ينجروا إلى الدخول في الصراع، بحكم أن الأفكار تختلف وتتصارع بطبيعتها، وفي خضم هذا الاحتدام تتكشف مشكلات كثيرة في غالبية التوجهات، فتكون الممارسات بعيدة عن مجالاتها النظرية التي يدعي أصحابها أنها تأسست عليها، فيظهر التيار الاسلامي عنيفاً أمام خصومه يصل أحيانا إلى درجة التكفير، ويظهر التيار الليبرالي إقصائياً يستدعي السلطة السياسية على خصومه، ويظهر التيار العروبي متذبذباً بينهما وملقياً تهم الخيانة لهم جميعاً بلغة لا تبتعد عن إقصائية الليبرالي، وتكفيرية الإسلامي، لكنها تكفيرية فكرية وليست دينية.

في وسط هذا الاحتدام تصبح القراءة النقدية لكافة الأطراف الفكرية ضرورة معرفية ذلك أن الرؤية النقدية تعطي مساحة من كسر ذهنية الهيمنة والوثوقية داخل هذه التيارات، والمفاهيم بطبيعتها محايثة كما يقول جيل دولوز، بمعنى أنها تتأسس من حيث مجاورتها لغيرها، وأخذها منها، وإضافتها لمفاهيم لاحقة تؤثر عليها، وعلى ذلك يصبح التعامل مع المفاهيم أكثر مرونة من الدخول الدائم في صراعات فكرية قد لا تفيد كثيراً إلا تحقيق هيمنة هذا التيار أو ذاك.

أمر أخير من هموم الكتابة، وهو أن الكاتب يجد نفسه مضطراً إلى الكتابة عن بعض القضايا التي تهم المواطنين البعيدين عن صراع التيارات، فالمواطن لا يهمّه أحيانا من هو المهيمن فكرياً على السياق المجتمعي، بقدر هم معيشته وحياته اليومية، وانتهاء المشاكل التي يواجهها، لكن المسألة أعمق من ذلك، فكثير من المشاكل في السعودية لها أصول فكرية بشكل مباشر أو غير مباشر، فقضايا الفساد مثلا سببها عدم وجود قانون صارم يحاسب المتسببين، وعدم وجود مثل هذا القانون له سبب أكبر وهو غياب مفهوم المجتمع المدني، وغياب مفهوم المجتمع المدني هو بسبب غياب مفهوم الدولة الحديثة، وغياب مفهوم الدولة الحديثة هو بسبب عدد من الآيات التراثية التي صنعت واقعاً تقليدياً، لذلك فالقضايا والهموم الكتابية متشابكة إلى حد كبير، لكن هناك من يركز على القضايا الفكرية؛ لأنه يراها الأصل، وهناك من يأخذ بالقضايا الخدمية بشكل مباشر ويعاجلها من منظوره. وها أنا أعود للكتابة في "الوطن"، محملاً بكل تلك الهموم وأتمنى أن أحقق معالجة مقنعة للقارئ حولها.