أثبتت الأحداث والصراعات المتلاحقة التي تعصف بما بقي من ثقافتنا الواحدة، أن أخطر ما يواجه المثقف والمبدع والإعلامي، هو الانجرار الأعمى وراء الخلافات السياسية "الوقتية" التي قد تُحل بجلسة تفاهم لا تزيد على ساعة في بعض الأحيان. لذلك فاستهلاك الأفكار والأحبار في تحليل مثل هذه القضايا التي حلها بيد السياسي أكثر من المثقف، قد يكون نوعا من إضاعة الوقت، على حساب قضايا فكرية أعمق، هي من صميم عمل "الثلاثي": المثقف والمفكر والأكاديمي، هؤلاء هم الوحيدون الذين يمكن أن يكشفوا أبعادها وخطورتها على السلم الاجتماعي في المستقبل القريب أو البعيد. وأزعم أن قضية مثل تنامي ظاهرة "الهويات الصغيرة" العرقية أو الدينية التي أشار لبعض من مظاهرها الدكتور عبدالله الغذامي في كتابه "القبيلة والقبائلية"، من أخطر القضايا التي لم تأخذ حقها من الاهتمام على جميع المستويات. فنحن هنا لم نعد نتحدث عن الهويات الوطنية داخل القطر الواحد، التي كان يحذر منها "القوميون" العرب و"الأمميون" الذين يرفعون راية "الإسلام السياسي"، فقد أصحبت الهويات الوطنية آخر جدار يمكن الركون إليه. لكننا نفجع يوميا بتكريس هويات أصغر بكثير، تسعى إلى تدمير المجتمعات من الداخل بسرعة غير متوقعة، ففضلا عن هويات القبيلة والطائفة والعرق، ظهرت فئة جديدة، قد تكون أخطر من سابقتها، وهي فئة "اللاهوية"، وهي فئة تنتشر بشكل كبير خصوصا بين الشباب والشابات، الذين ربما ملوا تجاذب هذه الهويات الصغيرة لهم، فقرروا "ركلها" ـ كما يقول أحدهم في مواقع التواصل الاجتماعي ـ هذه الفئة لا تشعر بالانتماء لأي هوية في إطارها المحيط، وحتى نظرتها لمفهوم الانتماء للوطن تشوبها ضبابية شديدة، بسبب ما يقرؤونه ويسمعونه ويعيشونه يوميا من صراعات أيديولوجية وثقافية وفئوية، كلها تتمسك بأهداب ثوب الوطن، لكي تمنح ذاتها الشرعية، فكل فئة ترى نفسها "المهدي المخلص" من المشكلات والأزمات المختلفة، بل إن بعض الفئات لا تتورع عن التدخل حتى في الأمور العلمية التطبيقية البحتة التي لا علاقة لها بالأيديولوجيا. وهذا ما ولد نفورا لدى هذه الشريحة من الشباب الذين يبحثون عن "هوية ثقافية" تتناسب مع عصرهم وتفكيرهم.

المشكلة الخطيرة هنا، أن الكثير من "المنظرين" وصائغي القرارات في جهات حكومية عدة، لا يدركون مدى خطورة وجود فئة شابة تفكر بشكل مختلف عنهم. لذلك نجد كل البرامج والأنشطة، ما زالت تلبس عباءة تقليدية وسطحية، تتغنى بعناوين فضفاضة وشعارات تجاوزها الزمن.

أيها الباحثون الجادون، أيها المفكرون: قبل أن تخرجوا على شاشات القنوات الفضائية ومواقع التواصل الاجتماعي، لتفتوا في السياسات والعلاقات الدولية، انظروا إلى جواركم، وسلطوا أدواتكم البحثية والتحليلية بعلمية وشفافية، وستجدون "ما يشيب له الرأس".