من خلال إقامتي في مصر ومعايشتي جميع الأحداث حتى ومن قبل الربيع العربي، كما أطلقوا عليه، وأنا أستشعر القلق على أي بقعة في وطننا العربي، خاصة أنني قد عملت على أوراق بحثية عدة وألقيتها في ملتقيات ومؤتمرات، خاصة عن مشروع الشرق الأوسط الجديد منذ بدايته والإعلان عنه والتخطيط لتحقيقه وتحققه. فعملت على قراءة هذا المشروع قراءة تحليلية لتبيان عمق رؤيته التي تكمن في ثنايا سطوره.

وكنت قد استقرأت ما يمكن أن يحدث لهذا الوطن الكبير من محاولات لتقسيمه على مستوى البعد النفسي للأفراد، وما يترتب على ذلك في البعد السيكولوجي من انقسامات واختلاف.

فمنذ أن علقت النيران في أطراف ثوبه وأنا أستشعر الخطر المحدق بهذا الوطن الغالي، إلا أن أبناء الوطن يفقهون وبالفطرة ودون أو توجيه لأفكارهم معنى الوحدة الوطنية، ومعنى تلاحم النسيج الوطني ومعنى اللُّحمة الوطنية، ومدى ارتباط ذلك باستقرار الوطن وأمنه، بعيدا عن الأنانية والفوقية والمصالح الخاصة! ذلك النسيج الذي لم يكن نتاج ثقافة أو تعليم أو تدريس في مدارس خاصة أو عامة، وإنما كان فهما واعيا وفطريا متجذرا فيهم تجذُر جبال بلادهم التي ذكرها أمين السويدي ـ في كتابه سبائك الذهب ـ بأنها آباء الجبال لأنها أول جبال وضعت على الأرض.

فتراثهم البدوي العتيق هو ما تنضح به جيناتهم الضاربة في عمق التاريخ! فقد قال ويلفريد وتثسنجر في كتابه الرمال العربية الذي كتبه منذ مئة عام ونيف: "وليس معنى هذا أن أهل الصحراء كانوا متوحشين أو جهلاء؛ على العكس كانوا ورثة، شديدي التعصب لحضارة موغلة في القدم، وجدوا داخل إطار مجتمعهم الحرية الشخصية والتهذيب النفسي الذي يريدون".

ثم يقول في موضع آخر: "كانوا بدوا وأنا أوروبي، وكانوا مسلمين وكنت مسيحيا، ولكني كنت زميلهم، تربطني وإياهم رابطة قوية، عراها لا تنفصم. رابطة مقدسة كتلك التي تربط المضيف بالضيف، وإن شئت فقل رابطة العصبية والقبلية، أنا زميلهم على الطريق، فلي عليهم حق الحماية ضد كل خطر، وضد كل إنسان حتى ولو كان أخا لهم. وكنت أعلم أن أقسى امتحان لي هو أن أنسجم معهم في حياتهم، فلا ممارسة سيطرة، ولا انتقادا لما شبوا عليه من مثل وطرق المعيشة، وأخيرا، لا انطواء على النفس يباعد بيني وبينهم".

كان مندهشا في كتابه عن تلك اللُّحمة المستعصية على أي فكر دخيل، فسطر للتاريخ جواهر النفس البدوية في الجزيرة العربية.

ويذكر خير الدين الزركلي عن الملك عبدالعزيز، أنه لما جاءه مرة بعض المشايخ برسالة، في الرد على الشيعة، يريدون السماح بنشرها، أخذها منهم، ثم في اليوم الآخر "سلّمهم الرسالة، مليئة بالحذف والإثبات، بخطه وقلمه، وقال لهم: إنكم أصحاب دين، ولستم أصحاب سياسة". ومن هنا أرسى، رحمه الله، قاعدة أساسية مفادها أن الدين له رجاله والسياسة لها رجالها، ولا تداخل أبدا بين هذا وذاك.

لقد قامت الدنيا ولم تقعد في أنحاء الوطن العربي؛ بينما لم يتحرك ساكن في هذا البلد باستثاء شذرات ممن سلموا رؤوسهم لدواهي العالم المتحرك من تحت أقدامهم.

في مقالي السابق كانت إحدى المداخلات تحذرني من الانزلاق في وحل نظرية المؤامرة! بينما أقول له: "صح النوم يا سيدي"! ألا ترى ما يملأ الآذان والعيون وصفحات الكتب في وطننا العربي، أقلها غزو المخدرات الرقمية، وإشاعة الفتنة الطائفية ومقالات الإعلام الأجنبي؟ إنها حروب الجيل الرابع. حروب التقنية والإعلام.

ففي مقال نشرته إحدى الصحف من أنجوس مكدونال يصف بلادنا بأنها على فوهة بركان تنزلق فيه الدولة بأكملها، ومن يقرأ المقال تنتابه رعشة من الخوف والتوجس! والهدف هو اللعب على العوامل النفسية للأفراد. كما ورد في مقال جمال الشناوي "إعلام الحرب.. وإعلام صبية واشنطن" يقول فيه: "سألت أحد العاملين السابقين في هيئة الإذاعة البريطانية عن أسلوب عملهم وقت الحرب مع الأرجنتين على جزر الفوكلاند عام 1982.. فقال لي إن العمل في إعداد النشرات والبرامج كان يسير كالمعتاد.. أما الأخبار المتعلقة بالحرب فكانت تذهب إلى ضابط من الجيش البريطاني كان مقيما معنا لمراجعتها قبل إذاعتها.. فهي الحرب"!

إنه اللعب على مكنون الشخصية، كي تتفجر من الداخل ودون طائرات أو صواريخ، ولكن نعمة الموروث في دواخلنا جعلت من روح الفرد منا عصية على كل تأثيرات خارجية، وقد ظهرت عبارات استوقفتني في المملكة بعد أحداث "الدالوة" المؤسفة، وتابعت تلك الهتافات الموحية والمعبرة عن كنه الشخصية ذاتها التي تحدثنا عنها.

كانت شعاراتهم "الدين لله والوطن للجميع" كلمات مختصرة إلا أنها أبادت آلاف الملايين من التلوثات السمعية والبصرية، وطهرت الأجواء من كل جراثيم المؤامرات والدسائس والفتن.

إنه شعب يعرف قيمة الاحتواء، يعرف أن تراب هذا الوطن ما هو إلا مكونات أجسادهم، وهو أيضا من أديم أجدادهم، فخرجوا في تلقائية وفطرية صادقة يهتفون بصوت واحد: الدين لله والوطن للجميع!

هتاف يهز البدن، يفوق أي خطاب يلقى من فوق آلاف المنابر. وبالتالي أقول لمن يفعلون فعل "العثة" في رباط النسيج الوطني والضارب في عمق التاريخ: "موتوا بغيظكم، فالدين لله والوطن للجميع".