يبدو أن الأشجار الكبيرة ستظل محتوية للشجيرات والأعشاب الصغيرة ولن تسمح لها - حينا من الدهر - أن تنمو وتكبر فتتلقى أشعة الشمس بعيدا عن الظلال الوارفة التي تصنع الظلام والدفء، ويبدو كذلك أن العويشبات ارتضت هذه المكانة الممنوحة لها وستبقى تعتاش على نزر مما تسمح به وتتغاضى عنه أمهاتها التي سمنت جذوعها وارتخت أغصانها، هذا المشهد – الحيوي - يمكن استعارته في حالتنا الثقافية، حيث يستعصي على بعض المثقفين والمبدعين الشباب أن يخرجوا عن الأطر والقوالب التي صنعوها لأنفسهم ولم تطالبهم بها الرموز مباشرة وإن كان الكبار يضعون حدودا غير مرئية ما إن يقترب منها الشداة حتى تحمر العيون وتتسع الأحداق محذرة من التمادي فالطريق محفوفة بالعتب والملامة.
وما من شك أن لكل مشهد حياتي رواده ورموزه التي شقت الطريق الوعرة وتحملت في سبيل تسنم القمة نصبا شديدا ورهقا، غير أن ذلك لا يعني – على الرغم من الاعتزاز بالمسيرة المشرفة - أن تبقى القمة ضيقة المساحة إلى الدرجة التي لا يمكن معها مقاربة منحنى الصعود ناهيك عن مزاحمة الكبار الواصلين الأوائل، أستحضر هذه الصورة ونحن نستمع إلى أصوات نعتز بها في مشهدنا الثقافي لكنها بانغماسها في حالة التمجيد غير المبرر تؤسس لنظرية "الرموز المتعالية" وهي إن استمرأت ذلك فستعمل - دون قصد بالطبع - على تهميش الفعل الثقافي والاشتغال الإبداعي الجديد مضيفة إلى ما سبق أن شيدته الرموز لبنات أخرى في قنطرة شاهقة تحجز ما دونها وتحدد مسيرته. ففي الحراك الإبداعي وباستقلالية محضة نجد مبدعا جديدا يتقدم بنتاجه الصفوف فيتربع سريعا على منصة الامتياز؛ لأنه استطاع الانعتاق عن هيمنة "الترميز" المقيتة متجاهلا المقولة المخادعة التي مفادها "سُبقت إليها، وما عساني أضيف"؟
ومن المعلوم أن للسابقين فضلهم وجدارتهم، ولهم علينا جميعا حق التقدير لمنجزهم أيا كان إلا أن هذا لا يعني الانضواء التام، وتحجيم القدرات الشابة وانكفاءها - كالأعشاب الطفيلية - تحت الأشجار الباسقة، ففي العطاءات المقبلة ما يبهر ويواكب ويتفوق وقد يبزّ "الرمزَ" منزلته، ولنا في تراثنا الأدبي خير الأمثلة على صعيد الشعر أو التأليف وغير ذلك مما برع فيه التلاميذ ففاقوا مشايخهم ورموز أزمنتهم في أجواء تحفها المحبة والاعتراف بالأسبقية والإفادة مما أنتجوه دونما ذوبان أو ارتماء في وهج الشهرة فيحترق "المختلف" كما تفعل الفراشات الناشئة في حضور النور.