ترك حادث سقوط العاصمة اليمنية صنعاء بهذا الشكل السريع في أيدي مسلحي جماعة الحوثي خلال أقل من أربعة أيام من المعارك، الكثير من التساؤلات حول الأسباب التي أدت إلى هذا الانهيار وعدم قدرة الجيش على مقاومة المد الحوثي القادم من مناطق الشمال، بخاصة محافظة عمران ومناطق مختلفة من العاصمة.

لم يفهم الكثير من المواطنين، ناهيك عن المراقبين، السر في سقوط العاصمة المحصنة بقوات كبيرة من الألوية العسكرية وبمؤسسات حكومية عسكرية وأمنية عدة، لأن السقوط السريع للعاصمة كان فوق الوصف وحتى فوق التخيل، ذلك أن وحدات الجيش التي كانت مهمتها حماية العاصمة ومقار المؤسسات الحكومية المختلفة، بما فيها التلفزيون الحكومي ومبنى مجلس الوزراء وقيادة وزارة الدفاع وقيادة المنطقة العسكرية السادسة ( الفرقة الأولى مدرع) التي ظلت على مدى أعوام مرهوبة الجانب، والمصرف المركزي، سقطت بدون مقاومة، وبعضها قاوم بقرار شخصي من الجنود وليس بقرار رسمي من الجيش.

ربما كانت حسنة هذا السقوط السريع هي في تقليل حجم الخسائر البشرية بين المواطنين والجنود، حيث قتل 270 شخصا وأصيب 460 آخرون، وحتى إمكانيات الدولة التي تم الحفاظ عليها بعد اقتحامها من قبل مسلحي الحوثي، الذين قاموا بتسليمها لقوات الشرطة العسكرية وإن كان تسليماً شكلياً، إلا أن ذلك لم يمنع من التساؤل عن المسؤول الأول في هذا السقوط للعاصمة والمتسبب في انسحاب وحدات الجيش من الشوارع وتركها ليتولى مسلحو الحوثي نصب نقاط تفتيش فيها والتعامل مع المواطنين بديلاً عن الدولة.

فساد دولة

من يريد أن يفهم سبب سقوط العاصمة صنعاء، عليه أن يدرك أن الجيش كان في حالة مهلهلة وغير قادر على إدارة معركة مصيرية للدفاع عن صنعاء، فالجيش كان عبارة عن مؤسسة متهالكة ضربها الفساد في العمق، وهذا الفساد ليس نتيجة سنة أو سنتين، بل نتاج سياسة انتهجها الرئيس السابق علي عبدالله صالح، الذي أسس الجيش على أساس الولاء للفرد وليس للوطن.

كان صالح يتباهى في فترة حكمه أنه أسس دولة مدنية حديثة وأسس جيشاً قوياً لا يقهر، لكن الأحداث أكدت أنه صنع دولة من ورق، وأثبتت الأحداث ذلك من خلال الانهيار الكبير الذي حدث للجيش في معاركه الست ضد جماعة الحوثي، حيث اتضح لاحقاً أن الرجل كان يرمي بالجنود إلى المحرقة في سبيل البقاء في سدة الحكم لمدة أطول.

بالنظر إلى ما حدث فإنه يمكن القول إن الفساد الذي تربى عليه الجيش وتأسست عليه الدولة طوال العقود الماضية، هو الذي أسقط الدولة والجمهورية بأكملها وليس الحوثيون فقط، وكان الرئيس عبدربه منصور هادي منذ أن كان نائباً لصالح يدرك أنه لا يملك شيئاً يستطيع الرهان عليه، فالجيش منقسم والدولة عاجزة عن أداء دورها المؤسسي والأحزاب السياسية غير قادرة على تأدية دورها بالشكل الذي يجعل الفساد يتوارى إلى الخلف، بل ساعد الجميع على انتشاره بصورة أكبر.

مشهد مسلحي جماعة الحوثي وهم منتشرون في شوارع العاصمة يؤدون وظيفة الجيش وقوات الأمن وقبلها وظيفة الدولة، يلخص حقيقة الدولة الهشة التي كانت قائمة على الفساد منذ عشرات السنين، والأمر لم يكن خافياً أبداً على المواطن الذي كان يلمس هذه الحقيقة خلال السنوات التي سبقت أحداث 2011، لكنها تعمقت أكثر بعد هذا العام لتسجل أدنى حضور للدولة، فقد جاء الحكام الجدد ليضيفوا أزمة جديدة تضاف للأزمات السابقة، وتمثلت في تحميل الدولة الكثير من الأعباء من بينها تجنيد عشرات الآلاف في مؤسستي الجيش والأمن وفق أسس حزبية وليست وفق حاجة ضرورية.

من هنا ترهلت الدولة أكثر وزادت أعباؤها، وجاء وقت تزايدت فيها حدة الاستقطاب السياسي في المؤسسات العسكرية والأمنية وتحولت الولاءات لتأخذ بعداً سياسياً إضافة إلى البعد القبلي الذي بني الجيش على أساسه خلال العقود الثلاثة الماضية، لهذا كان سقوط الدولة مريعاً وبرز ذلك واضحاً في الاختبارات الأخيرة التي وضعها مسلحو الحوثي أمام الدولة المتمثلة في الهجمات التي شنوها على الجيش من عمران وحتى صنعاء.

المرور الكبير

بعد أن تخلص الحوثيون من بيت الأحمر، استناداً إلى دعم كبير حصلوا عليه من أنصار الرئيس السابق علي عبدالله صالح، بدؤوا في الالتفات إلى القوات العسكرية التي كانت موجودة في محافظة عمران، فقد كانت العائق الوحيد أمام مشروع الحوثيين في الوصول إلى صنعاء ومحيطها.

تدريجياً بدأ الحوثيون في قضم عمران مستفيدين من حالة التراخي لدى الجيش النظامي، الذي كان يعتقد قادته أن المواجهات هي بين جماعة الحوثي وخصومهم في حزب التجمع اليمني للإصلاح، لكن الجيش لم يكن يعلم أن الحوثيين يخططون لما هو أبعد من إنهاك خصومهم السياسيين والدينيين، فقد كانوا يريدون الجيش نفسه.

من هنا خاضت جماعة الحوثي مواجهات مسلحة ضد قوات الجيش المتمثل في اللواء 310 مدرع، الذي كان يعد واحداً من أقوى وحدات الجيش اليمني على الإطلاق، كان مبرر الحوثيين أن قائد اللواء العميد الركن حميد القشيبي هو عضو بارز في قيادة التجمع اليمني للإصلاح (الإخوان المسلمون)، وأن القتال لم يكن قتالاً ضد الجيش، بقدر ما هو قتال ضد "الإخوان".

تحت هذا العنوان العريض والملتبس في علاقة القشيبي بين الدولة والحزب والقبيلة، حيث ينتمي الرجل إلى حاشد، خاض الحوثيون صراعاً دامياً استمر لأشهر، قبل أن يتمكنوا من إسقاط اللواء وقتل قائده، وبعدها الاستيلاء على الأسلحة التي كانت تقع داخل مقر اللواء وخارجه، وهي عبارة عن أكثر من 70 دبابة، بالإضافة إلى العشرات من المدافع وراجمات الصواريخ وغيرها.

جاءت معركة الحوثيين لإسقاط عمران لتتويج الأخطاء الكبيرة التي وقع فيها هادي ووزير دفاعه اللواء الركن محمد ناصر أحمد، الذي ما فتئ يصرح في أكثر من مناسبة أن الجيش "يلتزم الحياد في الصراع"، في إشارة منه إلى أن الجيش ليس مستعداً للقتال ضد الحوثيين من أجل "عيون الإخوان".

وعلى الرغم من أن بعضاً مما كان يورده وزير الدفاع فيه بعض الصحة، إلا أنه مع الأسف ترك مهمة الجيش الحقيقية في حماية البلد من تأثيرات الصراعات الحزبية وأدخل الجيش في دوامة من الأزمات أضعفت هيبته وحولته إلى قوة لا تستطيع عمل شيء، ولهذا كانت نتائج معركة عمران ظاهرة للعيان بعد قيام الحوثيين بفرض حصار مسلح على مداخل العاصمة بعد أن تخلصوا من نفوذ الجيش وقواته في عمران ومحيطها.

انتكاسة كبيرة

من الصعب معرفة طريقة تفكير الحكام الجدد لصنعاء، لكن من الواضح أن لدى الأطراف المتصارعة مشاريع سياسية واقتصادية متعددة، وهذه المشاريع قد تتصادم مع بناء دولة عصرية اليمنيون بحاجة ماسة لها بعد هذا الغياب الكبير والواضح للدولة خلال العقود الماضية.

الأهم هو أن يعي الرئيس هادي أن إعادة بناء الدولة هو أصعب بكثير من إيجاد دولة جديدة، ذلك أن مصالح سياسية واقتصادية قد ترسخت لدى قطاع كبير من المستفيدين من غياب الدولة، والذين سيكونون من المقاومين الرئيسيين لمشروع إيجاد الدولة العادلة، القادرة على حماية البلاد وإنقاذها من الوضع الذي وصلت إليه وكان سبباً في الانهيار والسقوط الكبير للعاصمة صنعاء.

إيران المستفيد الأول

بعد ما حدث كله لا يمكن الحديث إلا عن كاسب وحيد من وراء كل هذه المعركة، وهي إيران التي وجدت من خلال جماعة الحوثي الفرصة للحضور بشكل أكبر في اليمن، وقد أكد مسؤول إيراني كبير قبل يومين أن صنعاء هي رابع عاصمة عربية تسقط في أيديهم.

الساحة اليمنية ستكون من اليوم وصاعداً، الملعب الواسع الذي ستمارس فيه طهران سياستها تجاه المنطقة، لقد نجحت في اختراق هذه الساحة المهمة في إطار الصراع الإيراني ـ الخليجي، وصار اللعب اليوم على المكشوف.

ستزيد طهران من وتيرة دورها وتأثيرها في اليمن، وسيبدأ اليمنيون في التعايش مع واقع جديد ومختلف، ذلك أن الحوثيين تمكنوا من تنفيذ المهمة الموكلة إليهم من طهران بالكامل وتحولوا إلى أحد اللاعبين المحوريين في بلد يحاول لململة شتاته من جديد.