يستطيع الناظر في قصائد مدح الشعراء السعوديين للملك عبدالعزيز، أن يلحظ فروقا، - في الأسباب والبواعث- بين قصيدة المدح عند هؤلاء، وقصيدة المدح في الشعر العربي القديم؛ ذلك أن قصيدة المدح عند الشعراء السعوديين صارت ممزوجة، بالحس الوطني، والحب النابع من الوجدان، بل إنها – في الغالب – قصيدة وطنية، تستحضر - بإيمان، كامل،- إيجابيات، مآل الأحوال في ظل الوحدة الوطنية التي هيأ الله للملك المؤسس أسبابها.
وقد اتجه شعراء الجيل الأول، من الشعراء السعوديين، بمدائحهم إلى الملك عبدالعزيز، وكانوا يبتهلون المناسبات المختلفة للقول في شخصيته الفذة، لكنهم لم يبتعدوا عن المعاني المدحية المعلومة في الشعر العربي، وسيكون التركيز هنا على قصائد غير مشهورة، لشعراء غير مشهورين، بالمقارنة مع شعراء عرفوا بكثرة مدح الملك عبدالعزيز؛ بمعنى أن العرض يأتي على مقطوعات وقصائد لغير محمد بن عثيمين، وأحمد الغزاوي، وغيرهما من شعراء نجد والحجاز الذين أكثروا من مدح الملك عبدالعزيز؛ لأنه لا توجد إضافة في عرض نصوص أولئك الذين نالت قصائدهم اهتماما كبيرا من الباحثين.
وهناك ملحوظة عامة على معاني مدح الملك عبدالعزيز، وهي حضور محور الأمن بشكل واضح، حتى إنه لا تكاد تخلو قصيدة من هذا المحور؛ لأن الأمن في تلك المرحلة كان الحاجة الأهم، وقد تحققت بتوحيد البلاد، ومن أسباب الأمن إقامة الحدود، ولذا أشار إليها الشاعر صالح العمري، وهو أحد شعراء القصيم، في قصيدة ألقاها أمام الملك عبدالعزيز عند زيارته إلى القصيم سنة 1366، ومنها يقول:
لم يبق في الأرض هذا اليوم من ملكٍ
دستوره محكم التنزيل إلاكا
قد حكّموا نظُما يبغونها غرضا
إلى أمور وليس الأمر يخفاكا
من يجلد الحد في شرب الخمر ومن
للسارقين بحد السيف فتّاكا
ومن النماذج المبكرة لمدائح الشعراء السعوديين في الملك عبدالعزيز قصيدة عنوانها: "عبدالعزيز المفدى"، للشاعر إبراهيم بن علي بن زين العابدين الحفظي، ذكر مناسبتها ابنه محمد حيث يقول: "تقدر أنه في عام 1354، بعث جلالة الملك الراحل عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود هيئة من رجال حكومته ومنهم والدي... لمقابلة هيئة من حكومة الإمام يحيى حميد الدين، لتقدير الحدود بين المملكتين، وكان مقر الهيئتين ظهران الجنوب، فكتب أحد هيئة الإمام يحيى المدعو السيد إسماعيل، إلى هيئة صاحب الجلالة الملك عبدالعزيز الأبيات الآتية...."، فأجابه إبراهيم بن علي بن زين العابدين الحفظي بأبيات امتدح فيها الملك عبدالعزيز، ومنها:
وشاد للملك صرحا
ما مثله كل طود
عبدالعزيز المفدى
أبو الرجال الأسود
حامي حمى الدين فينا
بسيفه والجنود
ووصْفه الملك عبدالعزيز بأنه حامي حمى الدين بسيفه وجنوده، تشي بأنه حقق الأمن.
ولم يتخلف هذا الشاعر عن مواكبة المناسبات الوطنية السعودية المبكرة، ومن ذلك قصيدة نظمها بمناسبة مرور خمسين عاما على تولي الملك عبدالعزيز مقاليد الحكم، وذلك سنة 1369، يقول الحفظي في تلك القصيدة:
مليك أراح الشعب في ظل أمنه
فكل له يدعون في السر والجهر
فهو يشير إلى أن أسباب الأمن قد تحققت في أرجاء البلاد، وأراحت الشعب، مما يعني امتزاج معاني المدح الشخصي، بالمعاني الوطنية، فالممدوح استطاع بسط الأمن؛ لأنه عادل، تقي، كريم، وبهذه الصفات التي انعكس أثرها على البلاد وساكنيها، استحق المدح، والإعجاب، والدعاء له.
والملحوظ عند الشعراء غير المشهورين الذين مدحوا الملك عبدالعزيز مدحا مباشرا، أي في عهده، ندرة القصائد التي تمدح مدحا شخصيا خالصا، دون أن تصف المنجزات الأمنية والعدلية والتنموية، وهو ما يؤيد القول بأن قصيدة المدح السعودية صارت قصيدة وطنية، تتغنى بالمنجزات، وما آلت إليه الأحوال، وتجعل الممدوح، بوصفه رمزا وطنيا مدار الإشادة.
أما أحمد بن إبراهيم النعمي، وهو من شعراء عسير الأوائل، فله قصيدة نظمها سنة 1365، بمناسبة عودة الملك عبدالعزيز آل سعود من زيارته الأولى لمصر، وقد ألقاها في احتفال أقيم بهذه المناسبة، وهو بعد أن يصف الملك عبدالعزيز، بالأوصاف التقليدية، ويضفي عليها الشهامة، والكرم، وطيب الأصل والأخلاق، ينتقل إلى الأفعال والمنجزات، فيجعل العدل الأمن أهم تلك المنجزات، حين يقول:
قام بالفعل ونجى الناس من
مخلب الفسق وللدين عمر
وتوخى العدل في أحكامه
وأباد الظلم حتى لم يذر
عدله والأمن سيان هما
خلتا فضل بها الناس غمر
ومن الواضح، أن بسط الأمن، والحرص على العدل، معنيان مشتركان في القصائد التي مُدح بها الملك عبدالعزيز، ولذلك دلالته على أهم حاجات المرحلة، التي كان الأمن فيها المطلب الأول، وهو ما استطاع الملك عبدالعزيز – رحمه الله – تحقيقه، وفي وجود هذين المعنيين: الأمن، والعدل، في القصائد المبكرة كلها، دليل خفي على صدق أولئك الشعراء، وأنهم يمدحون الملك المؤسس -رحمه الله ورحمهم- بما فيه، وما فعله.
ويفصل الشاعر علي بن محمد السنوسي - في قصيدة أوردها الدكتور عبدالله أبوداهش، ضمن المفقود من شعره – القول في ما آلت إليه الأحوال من أمن وأمان، على يد الملك عبدالعزيز، إذ يذكر الشتات والتناحر والخوف، في مقابل الوئام والألفة وصون الدماء، فيقول:
أو لم تكن عرب الجزيرة قبل أن
وُليت ذمتها تُهان وتُهضم
أبدلتها بالذل عزا شامخا
والخوف أمنا لا يُراق به الدم
وله قصيدة أوردها محمد العقيلي في كتابه: "التاريخ الأدبي لمنطقة جازان"، وهي تشبه السابقة في معانيها المتجهة نجو الأمن، ومنها:
ولمَّ شعب الهدى بعد التفرق في
حسْن ائتلافٍ به الأيام تزدهر
وأنقذ العرب العرباء من فتنٍ
كالسيل في جنح ليلٍ ما به قمر
وحاطها بذمارٍ لا تزايله
عنها الليالي ولا يجتابها الخطر
وفي حين كان الشعراء الذين عاصروا الملك عبدالعزيز يبتهلون المناسبات لذكر مناقبه، فإن الشعراء الذين لم ينظموا الشعر في حياته قد استلهموا شخصيته في كثير من قصائدهم الوطنية، بل إن مدائحهم في أبنائه وأحفاده الملوك والأمراء، لم تكن تخلو من الإشارة إليه، وتلك نتيجة منطقية، إذ إن القول في الوطن، يستدعي القول في الرجل الذي عمل على تحقيق الوحدة الوطنية.
ومن المعاصرين المكثرين في مدح الملك عبدالعزيز، الشاعر أحمد بن إبراهيم مطاعن، وقد بلغ إعجابه به أن خصص لمديحه ديوانا كاملا سماه: "ملحمة المجد"، تتصدر غلافه صورة الملك عبدالعزيز، وبه ثمان وعشرون قصيدة، يجمع بينها حب الوطن. يقول الأديب محمد بن عبدالله الحميد، في مقدمته على هذا الديوان: "وهي في مجموعها تعبر عن عقيدة إسلامية متأصلة.. ووطنية عريقة صادقة". يقول من قصيدة بعنوان: "عطر الجذور"، نظمها بمناسبة مهرجان الجنادرية سنة 1413:
عبدالعزيز لهم رمز ورايته
لدى الكفاح، وللحسنى وللحسن
الأمن والحب والإيمان رسخه
بين الرعية والراعي مع الوطن
وهكذا، بقي محور: "الأمن"، حاضرا في القصائد التي مدح الشعراء فيها الملك عبدالعزيز -رحمه الله- حتى القصائد التي نظمت في العقد الثالث هذا القرن الهجري، ولذلك دلالاته المهمة المتعلقة بالصدق، والإجماع على أهم منجز حققه مؤسس البلاد، وموحدها، وهو الأمن.
وحين نتقدم في الزمن، ونذهب إلى شيء من قصائد المجددين، نلحظ أن القصائد التي مدحت الملك عبدالعزيز تتطور على مستوى الأداء الفني، وتتحرر من أسر الصياغات التقليدية، بل وتذهب إلى بعض الأساليب البديعة؛ كالحوار، أو القول على لسان الأرض، أو على لسان الملك عبدالعزيز نفسه، لكن المعاني لا تكاد تبتعد عن سابقاتها؛ لأن الشمائل، والمنجزات هي ذاتها، كما أن طريقة الشعراء في الاتجاه نحو ذكر سيرته تبقى نفسها، إذ صار من البدهي أن يكون مدح أحد أبناء الملك عبدالعزيز، أو أحد أحفاده، سببا في استدعاء مناقب الملك الذي وحد البلاد، ووطد الأركان، ويسير الشاعر أحمد عبدالله عسيري على الطريق نفسها، حين يلقي قصيدة أمام الأمير نايف بن عبدالعزيز -رحمه الله- سنة 1415، في حفل افتتاح المبنى الجديد لإمارة منطقة عسير، حيث يقول:
غادة الأرض من كساك جلالا
واعتزازا من طارف وتليد؟
وبنى في رباك قلعة مجد
وامتطى الريح فوق هام البنود
وطوى الليل طامحا للمعالي
تجمع الشملَ رايةُ التوحيد
ذاك عبدالعزيز قصة شعب
حمل الصبر في دماء الوريد
وهنا نلحظ شيئا من التجديد في المعاني، والصور، إلا أن جوهر المعنى لا يتغير؛ فالتعبير بـ"قلعة مجد"، يعني أن البلاد صارت محصنة، كالقلعة، والتحصين يستلزم الأمن.
ثم تتطور معاني مدح الملك عبدالعزيز -رحمه الله- حين يصبح الملك هو الوطن، فتكرس رمزيته، عندما يكون حاضرا في منجز، والتطور – هنا – ناجم عن أمرين: أحدهما التاريخي؛ إذ تحول الملك عبدالعزيز، مع مرور السنوات، وتراكم المنجزات، إلى رمز في أذهان الشعراء الذين لم يعاصروه، والآخر: الفني؛ عندما حاول الشعراء التخلص من القوالب اللفظية الجاهزة، والمعاني المكررة، تابعين في ذلك تطور القصيدة، في موضوعاتها كلها، ومن ذلك أن يقف الشاعر إبراهيم طالع الألمعي أمام الأمير/ الملك عبدالله بن عبدالعزيز -ولي العهد آنذاك- ليلقي قصيدة بمناسبة وضع حجر الأساس لجامعة الملك خالد سنة 1419، فيعود إلى السيرة الأولى، متجاوزا الصفات الشخصية التقليدية للملك عبدالعزيز إلى رمزية الشخصية، وحضورها في كل ما تراه الأعين من منارات البناء، وما تمثله بالنسبة إلى أبناء الوطن، حتى صار ثراها كل شبر من تراب البلاد، وهو تناول استطرادي يختلف عن طريقة الشعراء السابقين القائمة على سرد الصفات، أو وصف الأفعال وصفا مباشرا يشبه التاريخ الشعري، لتكون قصيدته شاهدا على التطور الذي طرأ على قصيدة مدح الملك عبدالعزيز؛ سواء أكان ذلك في اللغة، أم في الصورة، أم في الموضوع الذي بات مزجا لغويا بين: حب الوطن، وحب قادته. ومنها:
عبدالعزيز يهيج كل مزية
تمتد لي أو همة تستنفر
عبدالعزيز مهاجر من ذاته
في كل شبر في التراب مدثر
وبنوه من هذا التراب نباتهم
فهل الجديد زيارة أو محضر؟
إلى أن يقول:
مهد العروبة واحد وختامها
ما خطه عبدالعزيز يُسطّر
والشاعر نفسه يكرر استحضار الملك عبدالعزيز في غير قصيدة، لكنه لا يعمد إلى المباشرة، وإنما يلجأ إلى ذكر الملك في أثناء المعاني، ومن ذلك قصيدة بعنوان: "برك وأمير" ألقاها ترحيبا بالأمير سلطان بن عبدالعزيز -رحمه الله- في عسير سنة 1420، وفيها يأتي على الوحدة الوطنية التي تنعم بها البلاد، ويذكر الملك عبدالعزيز بلقبه "صقر الجزيرة"، واضعا لفظة: "صقرها" بين قوسين إمعانا في التأكيد على أنه هو لا غيره. يقول:
وطن واحد وأهل كرام
يتبارون عزة وشعورا
تتحدى جبالهم كل صعب
حين شاءت لـ"صقرها" أن تمورا
وتتصل هذه الطريقة عند الشعراء الشباب، فلا يكادون يسبغون الصفات على الممدوح من أبناء الملك عبدالعزيز، إلا وينثنون إلى مدحه، ومن أولئك الشاعر محمد علي العمري، الذي عرف بكثرة القول في المناسبات، وهو لا يفتأ يذكر الملك عبدالعزيز في جل قصائده، ومن ذلك أن ألقى قصيدة أمام الملك عبدالله بن عبدالعزيز سنة 1427، وختمها بقوله:
فضل من الواهب الرزاق هيأه
على يدي عابد من نسل عباد
عبدالعزيز أهل الله غرته
على العباد بإرغاد وإسعاد
شيخ ولدنا جميعا يوم مولده
فناب ميلاده عن كل ميلاد
وقبل ذلك بثمانية أعوام وقف الشاعر نفسه، أمام الأمير سلطان بن عبدالعزيز، فأسهب في مدح الملك عبدالعزيز، حتى بلغت الأبيات التي خصه بها ثلاثة وعشرين بيتا، وفيها يسرد بطولات الملك عبدالعزيز، ويذكر شمائله، مفصلا القول في صفة الأحوال قبل توحيد البلاد، وبعدها، وكل ذلك يستدعي المقارنات، بين: ما كان، وما هو كائن، ويعني أن الإشارات على تحقق الأمن لم تعد مباشرة، أو من خلال ذكر مفردة "الأمن" نفسها، كما كان في قصائد الجيل الأول، وإنما صارت تأتي من خلال الصورة الفنية، القائمة على التشخيص، أو التجسيد. يقول العمري:
تنفس الصبح عن عبدالعزيز وقد
طال الظلام عليها من أعاديها
طارت بأنبائه الشمس التي شرقت
من خلفه لروابي نجد ترويها
فاضت عيون الخزامى بالندى فرحا
ووجنة الرمل باللقيا تناجيها
وإذا كان من الطبيعي، أن يكون وقوف الشعراء أمام أحد أبناء الملك عبدالعزيز، أو أحد أحفاده، داعيا إلى مديحه واستحضار صفاته، فإن من المختلف أن يرد ذلك المديح في قصائد ليس المدح غرضها، بل إن بعضها غير مرتبط بمناسبة معلومة، وفي ذلك دليل على كون الإعجاب بشخصية الملك عبدالعزيز نابعاً من الذات، وليس نابعاً من الطمع، أو خاضعاً للموقف، ومن ذلك مديح الشاعر أحمد بيهان للملك عبدالعزيز في قصيدة طويلة عنوانها: "إلى جزيرتي"، وعدد أبياته ستة وتسعون بيتاً، وفيها يستعرض تاريخ الجزيرة العربية عبر العصور، مستحضراً رموزها التاريخية، ثم يبسط القول في شمائل الملك عبدالعزيز وبطولاته، بوصفه حلقةً مهمة من حلقات تاريخ هذه الجزيرة، ويبقى تحقيق الأمن بعد الخوف أهم منجزاته. يقول على لسان الجزيرة العربية نفسها:
وبه نعمت بوحدة ميمونة
من بعد طول تفرق وعناء
وبه عرفت الأمن بعد مخاوف
هد الزمان بها قوي بنائي