الزائر لأرض الكنانة هذه الأيام يلحظ أمورا كثيرة، تشير معظم مؤشراتها إلى أن البلاد تسير على السكة الصحيحة. فرغم حوادث الإرهاب التي تتكرر كل يوم، فإن هناك شعورا عاما لدى النخب الفكرية، وأيضا عند معظم الناس بأن الدولة ستتمكن في النهاية من دحر الإرهاب وضرب مرتكزاته.

يساعد في تفاؤل الناس، وثقتهم في أن المستقبل سيكون أكثر إشراقا، تراجع أعداد المؤيدين لجماعة الإخوان المسلمين. فرغم التضخيم الإعلامي لأدوارهم، والحديث عن مظاهرات تتكرر بشكل يومي لأنصار الجماعة، فإن الملاحظ أن أعداد المشاركين فيها يتراجع بشكل لافت للنظر.

فالمشاركون في معظم مظاهرات أنصار الجماعة التي حدثت في مدينة القاهرة خلال الشهرين الأخيرين لم تتجاوز العشرات.

ويعود الفضل في تراجع التأييد الشعبي لجماعة الإخوان المسلمين إلى السياسة التنموية المستقلة والمتسارعة للحكومة، ولالتفاف الناس حول سياسات الرئيس عبدالفتاح السيسي. ويرى الكثير من المصريين، أن جماعة الإخوان تقف خلف معظم العمليات الإرهابية، في شبه جزيرة سيناء ومعظم المدن المصرية. إن ذلك يجعلهم في نظر الناس سببا رئيسا في حالة التوتر وانعدام الاستقرار.

لكن القافلة تسير، رغم بعض المنغصات، وأيضا رغم ارتفاع حالة التضخم والأزمة الاقتصادية والانقطاع المتكرر للكهرباء. فهده الأمور، كما يراها معظم الناس، هي حالة موقتة ستتغلب عليها مصر، وأنها مرتبطة بالمرحة الانتقالية من حال السكون وانعدام الرؤية، وغياب البرامج التنموية، إلى نقيضها، إذ تنفتح بوابات الأمل والعمل، وتؤكد مصر مجددا حضورها العربي والإقليمي والدولي.

إن حالة التفاؤل هذه جلية، يشعر بها الزائر لمصر في كل مكان، مع سائق التاكسي، ومع عامل الفندق، والصحفي والفنان والمفكر. ولذلك يقبل المصريون عن طيب رضا بالقرارات الصعبة التي تتخذها الحكومة، كرفع الدعم عن بعض السلع الغذائية والخدمات الأساسية. إنهم يرون في ذلك ضريبة لا بد أن تدفع، كي يتغير الواقع من حال إلى حال، وتنهض مصر مجددا وتأخذ مكانها اللائق بها بين الشعوب والأمم.

في غمرة الانهماك في مشاريع التنمية والبناء، تتجه مصر نحو استكمال مرحلتها الانتقالية السياسية، وتتهيأ لإجراء الانتخابات النيابية التي يتوقع أن تجري في شهر مارس من العام القادم. ويستعد الكثير من الناشطين السياسيين الذين يرغبون في الترشح للانتخابات النيابية القادمة منذ الآن، إذ يحضرون للحملة الانتخابية. على أن هدة الخطوة رغم أهميتها، لن تشكل تحولا كبيرا في مجرى الحياة السياسية المصرية. وذلك يعود إلى ضعف الحركة السياسية، وغياب التنافس من قبل أي مكون سياسي آخر مع نهج سياسة الرئيس السيسي.

إن المراقبين لتطور الحياة السياسية في مصر، يرون تشابها كبيرا بينها وبين ما جرى في تونس. ففي كلا البلدين حدثت ثورة، أدت مآلاتها إلى تسلم جماعة الإخوان المسلين السلطة. وفي كلا البلدين أيضا فشلت الجماعة في إدارة الدولة والمجتمع.

لم تكن في البلدين حركة سياسية قوية قادرة مفردها على مواجهة الجماعة سوى المؤسسة العسكرية، وبقايا الأنظمة السابقة، وذلك يعود لتجريف الحياة السياسية بالبلدين لعدة عقود. وهكذا لم يكن متوقعا أن يأتي البديل لجماعة الإخوان، بعد فشلها في البلدين من خارج دائرة المؤسسة العسكرية وبقايا النظامين السابقين.

لقد هزمت جماعة الإخوان في تونس ممثلة في حركة النهضة الإسلامية، في الانتخابات النيابية التي جرت مؤخرا. وكان الفائز هو حزب نداء تونس العلماني، الذي يعدّ امتداد البرقيبية بقيادة الباجي قائد السبسي.

في مصر، ما بعد ثورة 30 يونيو، ليست هناك أي قوة قادرة أن تصل إلى البرلمان وتحصد أغلبية مقاعدها سوى بقايا النظام السابق، وبشكل خاص تلك التي تتجانس مع سياسة الرئيس السيسي. وينتظر أن يضم البرلمان المرتقب مجموعة كبيرة من أفراد مستقلين، ليست لديهم أي برامج سياسية خاصة. وهؤلاء لن يشكلوا أي عبء أو معارضة حقيقية لسياسة النظام.

سيستغرق إعادة تشكيل الحياة السياسية، وبروز أحزاب جديدة قادرة على أن تشكل معارضة حقيقية للنظام وقتا طويلا، يحتاج على الأقل، في أكثر التقديرات تفاؤلا عقدا من الزمن.

إن ذلك سيؤدي من جهة، إلى هشاشة النظام البرلماني، وغياب الحياة السياسية الصاخبة، لكنه من جهة أخرى سيساعد على استكمال البرامج التنموية والاقتصادية من غير مشاكل سياسية.

والنتيجة أننا أمام مشهد فريد في المنطقة العربية، يتكرر في بلدين، شهدا المحطة الأولى لما عرف بالربيع العربي، فكلا البلدين يستعيدان روح النظام السابق، بمسميات جديدة، وبديناميكية مختلفة، وإرادة شعبية.

ذلك لا يعني أن التاريخ يعيد نفسه، فأنظمة الفساد والاستبداد ولت دون رجعة.

ما هو جديد في الأمر، هو قيام دولة في البلدين على أسس تعاقدية، يحكمها القانون والعدل. دولة لا تختطف فيها السياسة الدين ولا يجري فيها تكفير المجتمع.

أرض الكنانة تتجه بقوة وثبات، لاستكمال مرحلتها الانتقالية بإجراء الانتخابات النيابية. وسيكون عليها مواصلة السير، بعزيمة لا تعرف الكلل للقضاء على الإرهاب، وتحقيق الأمن والاستقرار، وإعادة البهجة والفرح لهذا البلد العريق. وسيكون عليها أيضا أن تسير حثيثا في مواجهة المشكلات الاقتصادية، وتطوير مخرجات التعليم، والاهتمام بالخدمات الصحية والكهرباء.

فبقاء الأوضاع الراهنة على حالها من شأنه أن يشكل ثغرات، يتسلل خلالها خفافيش الظلام، ليضربوا استقرار وأمن مصر.

استقرار مصر ليس مسألة تخص المصريين وحدهم، بل هو أمر يخص العرب جميعا، فقد أكد التاريخ في محطات عدة أن الأمة تضعف بضعف مصر وتقوى بقوتها.