فيما كان المسلمون في مشارق الأرض ومغاربها يستعدون للاحتفال بفرحة الإفطار وعيد الفطر المبارك، خرجت علينا وسائل الإعلام بخبر مدوٍ يشير إلى أن قساً في كنيسة لا يتجاوز عدد أعضائها 40 شخصاً بولاية فلوريدا الأمريكية يعزم على إحراق المصحف الشريف مع حلول ذكرى الحادي عشر من سبتمبر. ومن المثير في الأمر أنه منذ تلك الأحداث إلا وتعمدت وسائل الإعلام الغربية الزج باسم الإسلام في كل عمل إرهابي، مع إطلاق الأوصاف المتطرفة المختلفة على المسلمين، ولولا حكمة الحكام والعقلاء لأفرز ذلك الخطاب الإعلامي شرخاً كبيراً كان من الممكن ألا نجد له أي دواء ناجح. وكانت فكرة إحراق المصحف تعبيراً عن استمرار الشرخ الفكري لدى الغرب بمسؤولية الإسلام منفرداً عن الإرهاب.
ومع هدوء الحملة الغربية ضد الدين الإسلامي، جاء هذا القس المغمور محاولاً إعادة الأحداث لسنوات سابقة، إلا أن هذا القس ذكرنا وهو يطلق تصريحاته المستفزة في نفس الوقت ببعض أحداث التطرف المسيحي المتأصلة في التاريخ، خصوصاً حرق الأناجيل والكتب التي تخالف تعاليم الكنائس المختلفة.
فمنذ عقد المؤتمر الكنسي في نيقوسيا سنة 451 بعد الميلاد والذي تم على إثره حرق ما سواها من الأناجيل والأسفار التي لا تجعل من المسيح عيسى بن مريم إلهاً أو التي تظهره بصورة بشرية فقط. وفي العصر الذي سبق عصر النهضة الأوروبية شهد العالم حرقاً منظماً للكتب العلمية التي تخالف تشريعات ورأي الكنيسة، وتم اتهام كاتبيها ودارسيها بالهرطقة حتى بلغ الأمر بتعذيبهم وحرقهم وهو ما يعكس التطرف والغلو في الدين، وما عدا تلك الأفكار من وجهة نظرهم يعتبرون الآخرين خارجين عن الخلاص الأبدي.
ومن هذا التطرف أيضاً أن الدين المسيحي لا يقبل أي دين آخر معه. الأمر الذي تخالفه الكنيسة الكاثوليكية في روما وغيرها من الكنائس في المشرق العربي. وهذا التطرف هو نفسه الذي جعل الشعوب الأوروبية تقود حملات الواحدة تلو الأخرى فيما يعرف بالحروب الصليبية. ولا عجب في أن يأتي هذا القس المغمور ليذكرنا بالماضي المسيحي ليكون نموذجاً حياً على الغلو في الخطاب الديني والتطرف الذي ليس له عنوان.
وإن كان التطرف كما رأيناه في هجمات الحادي عشر من سبتمبر بفعل غلاة مسلمين، فإن هذا القس جاء ليؤصله بطريقة مختلفة وعبر وسيلة مختلفة. وقد سبق للتطرف الإسلامي - وهو من فعل الغلاة- قتل عثمان بن عفان، وكذلك سجن الإمام أحمد بن حنبل في فتنة خلق القرآن وغيره من الأئمة. كما زيفت وزورت الكثير من الأحاديث الكاذبة عن الرسول صلى الله عليه وسلم لتأييد هذا الفكر أو ذاك الرأي وإقامة الحجة.
إن الغلو في الدين كما دلت الأمثلة التاريخية يؤدي كنتيجة حتمية إلى التطرف، كما يؤدي إلى عدم التسامح وقبول الآخرين فيتجمد الفكر في عدم الاقتناع بالرأي الآخر لتشكل قناعة بأنه ليس هناك إلا رأي وفكر واحد مذهبيا كان أم عقائديا أو فلسفيا، وأنه دون هذا الفكر أو ذاك ليس بصواب ومن الواجب ردعه مما ينشر الفتن ويشعل نيران القلاقل.
وقد قرأت كتاباً عن تاريخ أئمة السنة جاء فيه عن الإمام الليث بن سعد (فقيه مصر) أهداه لي أحد الأصدقاء أن العديد - حسبما جاء في الكتاب – من الكنائس شيدت في مصر في زمن صحابة الرسول صلى الله عليه وسلم وفي عصر التابعين، وأنه احتج على والي مصر الذي قام بهدم كنائسها فكتب الإمام الليث للخليفة هارون الرشيد في ذلك. فأخذ برأيه وعزل الوالي لابتداعه ومخالفته روح الإسلام، وأمر الوالي الجديد بإعادة بناء الكنائس التي هدمت.
هذه الرواية التي لم أسمعها من قبل ورغم خصوصيتها إلا أنها فاجأتني لما تمثله من قمة في التسامح الديني ومن سمو الفكر والحكمة والبصيرة، وتلك الصفات نحن اليوم في أمس الحاجة لها للذود عن ديننا الحنيف حتى نتقي شرور الغلاة والمتربصين أمثال هذا القس المتعصب لدينه أو استغلال أفعاله وأشباهها لإثارة الفتن وقلب حال الأمم جاهدين وباحثين عما يثبت صوابهم أو في وسائلهم لتجييش العواطف سعياً وراء مآربهم. نسأل الله أن يقينا شرورهم ويحفظ بلادنا من أمثالهم.