أصدرت الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد "نزاهة" بيانا حول ما نشر في إحدى الصحف المحلية بعنوان "نزاهة تدرج ثرثرة زملاء العمل ضمن قائمة الفساد الإداري"، تؤكد فيه أن ما نشر في الخبر "مختلق" من أساسه، وفيه تجن على الحقيقة، وتقوُّل على الهيئة!

كما جاء في البيان السابق، أن الموضوع عبارة عن محاضرة ألقاها أحد أساتذة الجامعات، قامت "نزاهة" بطباعتها وتوزيعها، وقامت الصحفية "بنقل من الفقرات والمقاطع حرفيا دون ذكر للمصدر أو نسبتها إلى قائلها، ونسبتها جميعا إلى الهيئة، وذلك غير صحيح، مما ترتب عليه إظهار الواقع بغير الحقيقة، ونسبة القول إلى غير أهله"!

ولكن طالما "نزاهة" هي التي قامت بطباعة المحاضرة وتوزيعها، فهذا يعني أن شعار الهيئة موجود على هذه المادة، وبالتالي تكون من مطبوعاتها الرسمية، والحقوق الفكرية هي ملك لها، مما يعني ذلك أن ما ذكر في المحاضرة يُنسب إلى نزاهة في الحقيقة، ولكن ما السبب الحقيقي الذي آثار حفيظة نزاهة ودعاها إلى إصدار بيان شديد اللهجة في مضمونه؟

أعتقد أن السبب يتمثل فيما يقال عن نزاهة بأنها "ركزت على الفساد الصغير وأهملت الفساد الكبير الذي يمارسه كبار الموظفين وأصحاب النفوذ"، فماذا يمثل "ثرثرة زملاء العمل" والتأخر عن أوقات العمل أمام الاختلاس والرشوة والانحراف عن السلطة، ونمو شبكات المصالح؟

صحيح أن تسيب الموظف وإهماله لواجباته، وانعدام انضباطه المتمثل في عدم اكتراثه لوقته ووقت غيره، فيكثر لديه هدر الوقت الرسمي، وعدم الالتزام بمواعيد العمل في الأوقات المحددة، والخروج قبل نهاية العمل، وتضييع ساعات الدوام في الاتصالات الهاتفية، والنقاشات الجانبية، والخروج للمناسبات الاجتماعية، تعدّ من مظاهر وأوجه الفساد، وقد يعزو البعض هذه الظاهرة إلى ضعف الحس الوطني وضعف الإحساس بالمسؤولية.

ولكن هناك أسباب أخرى أكثر أهمية من السابقة للأسف لم يتم الالتفات إليها، وهي لب القضية التي نحن بصددها، وهي غياب القدوة الحسنة في الإدارة، إذ ينعدم التوجيه والمتابعة من الرؤساء، فضلا عن تسيب الرؤساء والمديرين أنفسهم. في هذه الحالة تبرز ظاهرة التسيب لدى المرؤوسين، وينشغل الموظف بنقل الأحاديث ونشر الإشاعات وتتبع عثرات زملاء المهنة غير المَرضي عنهم.

في بعض الجهات الحكومية تنعدم القيادة الإدارية الواعية المنضبطة، فيطمع المهملون وينفر المجدون، فتجد كبار الموظفين يوصدون أبواب مكاتبهم، متذرعين بأنهم في اجتماع هام، أو أنهم مشغولون ببعض القضايا الجوهرية التي تحتاج إلى اتخاذ قرارات هامة بشأنها، بينما هم منهمكون في الاتصالات الهاتفية، أو مشاهدة برامج التلفاز الموجود في مكاتبهم، أو متابعة أسعار الأسهم في السوق المالية، مع احتساء كميات ضخمة من الشاي والقهوة وكأنهم في "كوفي شوب" بيروقراطي خاص ومغلق.

والمضحك المبكي، أن بعض الرؤساء في الجهات الحكومية يكلفون إدارة المتابعة لضبط العمل، ومنع الموظفين من النقاشات الجانبية والتنقل بين المكاتب، وضبط المقصرين في أداء عملهم، والمضربين عن مقابلة المراجعين، وفي نفس الوقت نجد أن موظفي إدارة المتابعة أنفسهم مشغولون بالثرثرة مع زملاء العمل والاتصالات الهاتفية، فلا يجدون لهم متسعا من الوقت لمتابعة المهام المكلفين بها!

تجدر الإشارة هنا إلى أن "نزاهة" قد لاحظت: "شيوع ظاهرة استخراج بعض موظفي الدولة، وكذلك بعض موظفي القطاع الخاص، لتقارير طبية لا تبرئ الذمة تجاه من منحت إليه، ولاتجاه من قام بمنحها في المستشفيات والمراكز الصحية الحكومية منها والأهلية، ذلك أن الغرض منها هو إضفاء الصبغة النظامية على غياب الموظف عن العمل ادعاءً بأن ذلك بسبب المرض، بعيدا عن الحقيقة".

في واقع العمل الحكومي، يكثر لدى بعض الموظفين كثرة أيام الغياب، والتماس الأعذار، واختلاق الأسباب بشهادات طبية تبرر غيابهم، ولكن لماذا ركزت نزاهة على التقارير الطبية للموظفين الصغار، وتجاهلت كثرة غياب بعض المسؤولين والرؤساء وبوسائل وطرق نظامية، منها على سبيل المثال السفريات التي تعدّ بمنزلة إجازة سنوية للرئيس الإداري، وهذه السفريات في حقيقتها ليست لأجل العمل وإنما للسياحة والاستجمام، فيترتب على ذلك تعطل الكثير من الأعمال. هذا من جانب.

ومن جانب آخر، عندما قامت "نزاهة" بالشخوص على 130 مستشفى ومركزا صحيا، واكتشفت أن ما نسبته 42% من هذه العينة، تعطي تقارير طبية مزورة للموظفين، لتبرير الغياب عن العمل! وهنا أتساءل: لماذا لم تقم "نزاهة" بفحص وزارة الصحة في مجال الرقابة على التقارير الطبية؟ فلدى الوزارة إدارة خاصة للتراخيص الطبية تقوم بمراقبة المستشفيات الأهلية الخاصة، إضافة إلى تقييم آلية إصدار التقارير في المستشفيات الحكومية من قبل وزارة الصحة. فلماذا تم تركيز على صغار الموظفين فقط؟، أليس الأجدر معالجة السبب أولا؟

إضافة إلى ما سبق، لاحظت "نزاهة" أيضا انتشار ظاهرة "الواسطة" في الجهات الحكومية، ومن ذلك "الواسطة في قبول الطلبة والتوظيف، واستخراج التراخيص والتأشيرات، وإسناد المشاريع"، وهنا أتساءل أيضا: هل دخلت "نزاهة" في دهاليز المصالح المشتركة بين كبار الموظفين وتبادل المنافع الشخصية فيما بينهم؟

لا شك عندي أن "نزاهة" تحاول توعية المجتمع بمخاطر وأضرار الفساد، وهي تنتهج الأسلوب الوقائي في سبيل تحقيق ذلك، لتحصين أنفس الأفراد من الوقوع في الفساد، وجعلهم يعادونه تلقائيا، ولكن هذه المنهجية تبدأ بمحاسبة الصغار قبل كبار المسؤولين، إضافة إلى أنها لا تركز على ثغرات الأنظمة والممارسات الإدارية العتيقة، وحتى لا تشتت جهود مكافحة الفساد، أرى أن يتم إعادة النظر في تنفيذ الاستراتيجية الوطنية لحماية النزاهة ومكافحة الفساد، بحيث تكون شمولية أكثر، وتركز على مراجعة الأنظمة واللوائح، وتفعيل الجانب القضائي والرقابي في هذا المجال.