أحيانا تمر عليك أيام في حياتك تحتاج فيها إلى أن تستجمع كل قواك وتقف أمام التحدي. خاصة حين يكون هذا التحدي من الطبيعة التي قررت أن تذيقنا بعضا مما في جعبتها من العواصف والأمطار، حينها تحتاج إلى أن تقرر هل تبحث عن مكان آمن وتنتظر، تهرب.. أم تنتفض وتستدعي كل ما بداخلك من قوة وتواجه الموقف، خاصة أنك مسؤول عن آخرين ينتظرون منك أن تقف كالجبل ولا تنهار.
بدأ النهار كأي يوم شتوي لبس عباءته الرمادية وأخذ يشدنا بنسائمه للخروج والاستمتاع، وحين مررت على الساحة في طريقي إلى قاعات المحاضرات وجدت الطالبات منتشرات في الخارج يغردن ضحكات وهمسات وأحاديث.. كم سعدت وأنا أراهن بعيدات ولو ليوم عن أجهزتهن النقالة ويتواصلن مع بعضهن البعض ومع الطبيعة، كل على طريقتها الخاصة، كن ينشرن السعادة من حولي فانتشيت، وعند المحاضرة الثالثة فكرت في أن أخرج الطالبات إلى الساحة، وسط كل هذه الحياة النابضة من أخواتهن سنستمد الطاقة، لم أندم فما خرج منهن كان رائعا فعلا، وعند نهاية المحاضرة اقتربت مني أخريات وسألن إن كنت سأقوم بنفس الشيء معهن، ووعدتهن بذلك، ولكن هذه الطبيعة.. لم تمنحنا الفرصة.
فسرعان ما بدأت الرياح تشتد وبالكاد جمعت الطالبات اللائي كن في حالة حيرة وذهول يتساءلن: هل هناك إخلاء أم محاضرة؟ وجاء أمر الإخلاء وأسرعت بطالباتي إلى مبنى الإدارة الذي كان أقرب مكان آمن لنا.. وحين وصلنا التفت لأجد من كن كالعصافير أصبحن في لحظات كالقطط المبللة! هذه تبكي وهذه في ذهول.. هذه تسعل وهذه تعطس، وأخرى تحاول أن تجفف جهازها بملابسها المبللة وبأيد مرتجفة تحاول أن تعيد الاتصال بوالدتها التي أخبرتها شيئا ما عن والدها فبدأت بالبكاء الهستيري تدور حول نفسها وهي تردد أبي.. أبي، هنا تجمدت للحظات وشعرت بضجيج هائل في رأسي، يا إلهي ماذا أفعل؟
استجمعت قواي وطردت كل تشويش آت من داخلي وأخذت أتصرف كآلة لا أدري هل كان بوعي أم دون وعي! اتجهت أولا إلى الطالبة التي كانت تبكي وأخذت منها الجوال وجففته ثم أعدته إليها قائلة إن لم يعمل هاكِ جهازي، ثم ذهب إلى تلك التي كانت تسعل لأطمئن عليها.. ومن طالبة إلى أخرى إلى أن بدأ الوضع يهدأ قليلا فاتجهت إلى استراحة هيئة التدريس، لأطمئن إلى الزميلات، وهناك وجدت خطرا أكبر، فلقد كان الماء يتسرب من السقف على أجهزة الحاسوب، تاركا بركا من الماء الطيني، ودون أي تفكير سارعت إلى فصلها عن الكهرباء ونقلها إلى مكان آخر وتجفيفها، ثم وضعت تحت كل تسرب في السقف سلة قمامة.. وعند اقترابي من نهاية العمل أدركت أنني بلا حذاء والأرض مبللة! ففكرت حينها بالخطر الذي وضعت نفسي به، ماذا لو أنني أصبت بماس كهربائي وأنا أفصل الأجهزة؟ لا يهم سأفكر بالأمر لاحقا.. المهم الآن أن أخرج لأطمئن إلى الطالبات.
والحمد لله، لم أكن وحدي فلقد قامت حارسات الأمن بأعمال متفانية أذهلتني من أجل تجميع الطالبات ثم المرور على القاعات وإغلاق مفاتيح الكهرباء، رأيت الإرهاق في أعينهن كما رأيت الإصرار.
وبعدما مررت على من بقي من الطالبات لأتأكد من أن لديهن وسيلة للمواصلات قررت العودة، أمسكت بأعصابي وأنا كعادتي أبتسم لهذه وأضحك مع هذه وأخبرهن أننا في مغامرة وسنتذكرها يوما ونضحك على أشكالنا، بل إنني حين وجدت مجموعة منهن جالسات في ركن وعلى ما يبدو أنهن كن قد خططن لوجبة غداء جماعية ولكنهن نسين أن يحضرن المعالق، أحضرت لهن معالق بلاستيكية من غرفة الأستاذات.. لمن كانت؟ لا أعرف، المهم أن أحول تفكيرهن إلى مكان آخر جميل وآمن، غدا أسأل وأعتذر على تطفلي، فالسعادة التي شاهدتها في أعين الطالبات حين طلبت منهن أن يجلسن بجانب النافذة ويستمتعن بمنظر المطر ويتناولن الوجبة، جعلتني لا أعطي الأمر مزيدا من التفكير.
هل كان حلما؟ هذا ما حدثت نفسي به بعد أن أوصلت طالبتي التي لم تتمكن من التواصل مع أهلها ووجدت أباها على باب المنزل وعيناه تكاد تخرج من وجهه خوفا على ابنته، بعدها هل هدأت؟ كلا، فلقد بدأت المشاعر التي كبتها داخل نفسي تخرج وأجهشت فجأة بالبكاء الصامت لا لشيء، فقط لأخرج كل هذا التشنج والتوتر الذي كنت أخفيه خلف ابتسامة هنا أو ضحكة هناك فأنهكني داخليا.
قد تواجهنا التحديات ولكن نحن من يقرر بأن نكون على قدر المسؤولية، إما أن ننهار ونسبب الذعر لمن حولنا وإما نقف كالجبال أمام الرياح العاتية، لا وقت للتفكير، التصرف والتحرك هما سيد الموقف، ولنترك المشاعر لما بعد، فأحيانا غلطة واحدة قد تكلفنا الكثير.. ولكن في الوقت نفسه، نكتشف كيف أن الله قد جهزنا وأعدنا لمثل هكذا مواقف، لا نعرف من أين تأتينا القوة أو كيف استطعنا أن نقوم بمهمات عدة في وقت واحد، حتى إننا لا ندرك كيف أنه حمانا خلالها من الخطر.. ولكنه حمانا، وسندرك حينها كيف كانت رحمته وعنايته، خاصة ونحن نستعيد الموقف كشريط سينمائي يمر في ثوان أمام أعيننا.