كانت رواية البرتغالي جوزيه ساراماجو "العمى" مريرة وترى إلى الواقع البشري من أكثر الأمكنة التصاقا بقعر جحيمه، تشرح الزيف الطاغي الذي يستحيل إلى نظام حياة، وتنازعات استيلاء وقهر، يتشكل مجتمع بأسره في العماء، بكامل تواطؤاته وسلوكه وشقائه، بكل ضغينته وشقائه، انحلاله واشمئزازه وروائحه، وحتى خلجاته وانغمار وجدانه في الحب والعداء، كل هذا وبمختلف التفاصيل تنمو الأشياء في محجر العمى المعدي، وبفعل هذا العماء في نمو كل شيء تتشكل حياة يومية، كما هي مليئة بضعف الإنسان وهشاشته وحزنه، فهي مزدحمة أكثر بالمقزز واللا إنساني دون أدنى شعور به أو تفكير فيه أو توقف عنده.

المبصر الوحيد، معادل الواعي، هو الذي كان يرى كل هذا الشقاء ويعيش عذاباته. كيف بدأ؟ وكيف تشكل؟، وكيف صار تلك التركيبة المعقدة والمريضة؟ التي قد تجعله في لحظة ما، فريسة هذا التوحش. تلك اللحظة التي يتفاقم فيها موات الضمير الاجتماعي، حتى يصبح إرثا مبررا ومشرعنا.

يقول ساراماجو في أحد المواضع بالرواية "إن الضمير الأخلاقي الذي يهاجمه الكثير من الحمقى، وينكره آخرون كثر أيضا.. هو موجود وطالما كان موجودا ولم يكن من اختراع فلاسفة الدهر الرابع، إذ لم تكن الروح أكثر من فرضية مشوشة، فمع مرور الزمن والارتقاء الاجتماعي أيضا، والتبادل الجيني، انتهينا إلى تلوين ضميرنا بحمرة الدم وبملوحة الدمع، وكأن ذلك لم يكن كافيا، فحولنا أعيننا إلى مرايا داخلية، والنتيجة أنها، غالبا، تُظهر من دون أن تعكس ما كنا نحاول إنكاره لفظيا".

مثل هذه الرواية يجب أن تُقرأ، أو على الأقل أن يرى الفيلم العظيم الذي خرج عنها، واسمه "العمى" أيضا، أقول هذا لمن في أيديهم صياغة المجتمع، من أصحاب القرار، مرورا بأساتذة الجامعات وعلماء الاجتماع ورجال الدين والمعلمين، رجالا ونساء، وحتى دواخل البيوت، حيث الآباء والأمهات والأطفال، كل هؤلاء الذين يملكون القدرة على جعل المجتمع سويا وطامحا، منتجا وصحيا وفاعلا، ومن بأيديهم أيضا جعله مريضا ومختلا، وهم لا يقدّرون كارثية العواقب، على المستوى الإنساني والأخلاقي والأمني والديني والوطني.. وكل شيء. كل شيء بلا استثناء.

التشيلية أيزابيلا أليندي شرحت مرة، وهي تتحدث عن الشغف والكتابة، وعن تجربتها حين حملت شُعلة الأولمبياد، كيف أن خطأ الانحراف إنشا واحدا في بدء المسار، ينتهي إلى مسافة مريعة من الفشل في نهايته.

الجميع يقولون إن الخلل في الفعل ينتهي إلى خلل في النتيجة.. لكن أناسا كثيرين، لا يريدون حتى أن يُشار لهذا الخلل، فضلا عن علاجه في بدء جديد.