يمكن اعتبار الهجوم الإرهابي الذي وقع في بلدة (الدالوة) قُرب الهفوف قبل عدة أيام (10 محرم) أول اعتداء طائفي في المملكة منذ تأسيسها. فالأحداث الإرهابية السابقة كانت موجهة عادةً ضد رموز الدولة، أوالمنشآت الاقتصادية، أو المقيمين الأجانب. والهجوم مؤشر خطير لسعي التنظيمات الإرهابية لضرب الوحدة الوطنية وتصدير الحروب الطائفية إلى المملكة.
سعى الهجوم للإيقاع بين السنة والشيعة في المملكة، ويظهر ذلك من اختيار الهدف والتوقيت، إذ وقع الاعتداء في بلدة صغيرة آمنة، لا يتجاوز سكانها ألفي نسمة، لم تعرف العُنف الطائفي يوماً، في منطقة الأحساء التي يتعايش فيها السنة والشيعة بسلام منذ أكثر من ألف عام. واختار الإرهابيون الهجوم في يوم عاشوراء، أحد أهم الأيام في التقويم الشيعي، فقتلوا ثمانية وجرحوا (12) آخرين، غالبيتهم من الأطفال، كانوا يشاركون في إحيائه.
ولكن أهداف الإرهابيين أحبِطت بسرعة. إذ تقاطرت الوفود من جميع أنحاء المملكة، ومن بعض دول مجلس التعاون، إلى هذه البلدة الصغيرة، معزّين ومستنكرين، واكتظت شوارعها بعشرات الآلاف من المؤيدين، وظهر السعوديون أسرة واحدة لا يمكن أن تنجح الجماعات الإرهابية في شق صفوفها.
وكان لسرعة التحرّك الأمني دور مهم في نشر الطمأنينة وتعزيز الشعور الوطني. فخلال ساعات من وقوع الجريمة، أُعلن القبض على عدة أشخاص لهم علاقة بالهجوم. وتم نصب شبكة واسعة مكّنت قوات الأمن من القبض على أكثر من (40) مشتبهاً خلال أيام، في مداهمات أمنية في طول البلاد وعرضها، في الهفوف والخبر والدمام، وفي الرياض وشقراء، وفي بريدة والبدايع، وفي عرعر والجوف، وغيرها. واستُشهد في مداهمات بريدة اثنان من رجال الأمن، وسقط ثلاثة من المشتبه بهم قتلى. ويُعتقد بأن من ضمن من ألقي القبض عليهم قائد الهجوم على الدالوة، وأنه قد عاد حديثاً إلى المملكة من مناطق الصراع المجاورة.
وما زال التحقيق في مراحله الأولى، ولكن هناك مؤشرات بأن الاعتداء كان جزءاً من مؤامرة أكبر تم إيقافها من خلال هذا العمل الأمني السريع، وأنها كانت ستشمل اعتداءات إرهابية أخرى، واغتيالات، وأعمال تخريب، لزعزعة الأمن والوحدة الوطنية.
كما يظهر حتى الآن أن معظم من تم القبض عليهم سعوديون، وإن كانت لهم ارتباطات مع تنظيمات خارجية. ويُظهر ذلك مرة أخرى عُمق وخطورة البُعد المحلي. وقد سبق خلال الأشهر القليلة الماضية الإعلان عن تفكيك خلايا إرهابية عديدة في مناطق مختلفة دأبت على تجنيد الشباب السعوديين للالتحاق بالتنظيمات الإرهابية خارج المملكة، أو تدريبهم على القيام بأعمال إرهابية داخلها.
ففي شهر أغسطس الماضي، تم الإعلان عن تفكيك خلية في بلدة "تمير" التي لا تبعد أكثر من "160" كيلومتراً شمال مدينة الرياض، والقبض على تسعة أشخاص فيها، متهمين بتجنيد الشباب للالتحاق بتنظيم داعش. إذ تمكنت هذه الخلية قبل تفكيكها من تجنيد "34" شاباً، غالبيتهم بين "20" و"25" عاماً للالتحاق بالتنظيم في سورية والعراق.
وفي شهر مايو الماضي، أعلن عن إلقاء القبض على "62" شخصاً في أماكن مختلفة من المملكة، يعتقد بأنهم من أنصار داعش والقاعدة، إضافة إلى "44" مطلوباً يجري البحث عنهم.
وفي شهر سبتمبر، أصدرت المحكمة الجزائية المتخصصة في الرياض أحكاماً بسجن 27 شخصاً لمدد تصل إلى عشر سنوات بتهم الانضمام إلى مجموعات إرهابية، والقتال خارج البلاد معها، وتجنيد المقاتلين لها، وتقديم الدعم المالي، واعتناق فكرها واستخدام الحلقات الدراسية لنشر ذلك الفكر. كما أصدرت أحكاماً أخرى في الشهر نفسه بالإعدام لثلاثة أشخاص أدينوا بالانتماء لـ"خلية الـ94" الإرهابية، وسجن "17" آخرين والمنع من السفر مدداً تتراوح بين 4 و23 سنة. وشملت التهم التي أدينوا بها الانضمام إلى تنظيمات إرهابية خارج البلاد والاستعداد للقتال معها، وتشكيل خلايا إرهابية داخل البلاد، وانتهاج المنهج التكفيري، والتخطيط لعمليات تفجيرية ضد مصالح أجنبية في الرياض، وإصدار الفتاوى الخاصة بعمليات التنظيم العسكرية والإفتاء بجواز قتل رجال الأمن والرعايا الأجانب، والتخطيط للقيام بعمليات اغتيال لعدد من المسؤولين.
وكما أشرتُ في مقال سابق في الوطن (داعش في العمق السعودي! – 23 سبتمبر 2014) فإن المشكلة أكبر حجماً مما توحي به أرقام المحكومين والمعتقلين، وأن خلية "تمير" وأشباهها مجرد رأس جبل الجليد، تحته شبكة أكبر من الدعم للتنظيمات الإرهابية، يأخذ صوراً مختلفة، من تزويدها بالمقاتلين والموظفين، إلى تقديم الدعم الديني لتوجهاتها التكفيرية، مما يسهّل عليها إخراج عملياتها وجرائمها باسم الإسلام. وأشرت إلى تقارير بوجود الآلاف من الشباب السعوديين خارج المملكة مع التنظيمات الإرهابية.
وتُظهر حادثة "الدالوة" استعداد الإرهابيين لتفجير الوضع الداخلي أيضاً، وضرب الوحدة الوطنية، ونشر الفوضى. وتؤكد الحادثة مرة أخرى أهمية المضي قدماً فيما أعلن عنه خادم الحرمين الشريفين في خطابه أمام وفود الحج في مِنى الشهر الماضي بأن "المملكة لا تزال ماضية في حصار الإرهاب ومحاربة التطرف والغلو، ولن تهدأ نفوسنا حتى نقضي عليه وعلى الفئة الضالة التي اتخذت من الدين الإسلامي جسراً تَعبُر به نحو أهدافها الشخصية، وتصِم بفكرها الضال سماحةَ الإسلام ومنهجه القويم".
وإذا كان تركيز الإرهابيين السعوديين خلال العقد الماضي على العمل الخارجي واستخدام شباب المملكة لدعم الإرهاب الخارجي، فإننا نرى في هجوم "الدالوة" عودة الإرهاب الداخلي في أبشع صوره، وهو يُظهر إحدى آليات التنظيمات الإرهابية، بخلق جو من التطرف والغلو يولّد الكراهية والفرقة والتعصّب، ويهيئ البيئة الملائمة للإرهاب.
ومن المتوقع بعد أن انضمت المملكة إلى التحالف الدولي للحرب على الإرهاب، أن تَنشط هذه التنظيمات داخلياًّ. ولذلك فمن المهم والعمل الدولي مُنصبٌّ على إضعاف وهزيمة الإرهاب في الخارج؛ أن يستمر العمل الداخلي لإحباط مخططاتهم الإرهابية، أمنياًّ وفكرياًّ، لتعريته وتجفيف منابع الدعم له من أي جهة كانت.